والثاني : أنها تعود على الوقت المقدر، أي : وقُم وقتاً من الليل، فتهجَّد بذلك الوقت، فتكونُ الباء بمعنى « في ».
قوله « نَافِلةً » فيها أوجه :
أحدها : أنها مصدرٌ، أي : تنفَّل نافلة لك على الصَّلوات المفروضة.
والثاني : أنها منصوبة ب « تهجَّد » لأنه في معنى « تنفَّل » فكأنه قيل : تنفَّل نافلة، والنَّافلةُ، مصدر؛ كالعاقبة، والعافية.
الثالث : أنها منصوبة على الحال، أي : صلاة نافلةٍ، قاله أبو البقاء، وتكون حالاً من الهاء في « به » إذا جعلتها عائدة على القرآن، لا على وقتٍ مقدر.
الرابع : أنها منصوبة على المفعول بها، وهو ظاهر قولِ الحوفيِّ، فإنه قال :« ويجوز أن ينتصب » نَافلةً « بتهجَّد، إذا ذهبت بذلك إلى معنى : صلِّ به نافلة، أي : صلِّ نافلة لك ».
والتهَجُّدُ : ترك الهجود، وهو النُّومُ، « وتفَعَّل » يأتي للسَّلب، نحو : تحرَّج، وتأثَّم، وفي الحديث :« كَان يتحَنَّثُ بغارِ حراءٍ » وفي الهجود خلافٌ بين أهل اللغة، فقيل : هو النَّومُ؛ قال :[ الطويل ]

٣٤٥٣- وبَرْك هُجودٍ قد أثَارتْ مَخافتِي .................
وقال الآخر :[ الطويل ]
٣٤٥٤- ألا طَرقَتْنَا والرِّفاقُ هُجودُ ...................
وقال آخر :[ الوافر ]
٣٤٥٥- ألا زَارتْ وأهْلُ منًى هجودُ وليْتَ خَيالهَا بِمِنًى يَعودُ
فَهجودٌ : نيامٌ، جمع « هاجدٍ » كساجد، وسجُودٍ، وقيل : الهجود : مشتركٌ بين النَّائم والمصلِّي، قال ابن الأعرابي :« تهجَّد : صلَّى من الليل، وتهجد : نام » وهو قول أبي عبيدة والليث - رحمهما الله تعالى-.
قال الواحديُّ : الهُجودُ في اللغة : النومُ، وهو كثيرٌ في الشِّعر.
يقال : أهجدتُّه وهجدتُّه، أي : أنَمْتهُ ومنه قول لبيد [ الرمل ]
٣٤٥٦- قَالَ :
هَجِّدْنَا فَقدْ طَالَ السُّرَى ..................
كأنه قال : نوِّمنا؛ فقد طال السُّرى؛ حتى غلب علينا النَّوم، وقال الأزهري : المعروف في كلام العرب : أنَّ الهاجد هو النَّائم، ثم رأينا في الشَّرع أنَّ من قام إلى الصَّلاة من النَّوم يسمَّى هاجداً أي متهجِّداً؛ فيحمل هذا على أنَّه سمِّي متهجّداً؛ لإلقائه الهُجُود عن نفسه؛ كما ياقل للعابد :« مُتحَنِّثٌ » ؛ لإلقائه الحنث عن نفسه، وروي أن الحجَّاج بن عمرو المازنيَّ قال : أيَحسبُ أحدكم، إذا قام من اللَّيلِ، فصلَّى حتَّى يصبح أنَّه قد تهجَّد، إنَّما التهجُّد الصلاة بعد الرقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، هكذا كتنت صلاة رسول الله ﷺ دائماً عليه.
والنافلةُ في اللغة : الزيادة على الأصل، وقد تقدَّم في الأنفال، وفي تفسير كونها زيادة ها هنا قولان مبنيَّان على أنَّ صلاة الليل، هل كانت واجبة على النبيِّ ﷺ أم لا؟.
فقيل : إنَّها واجبة عليه؛ لقوله سبحانه وتعالى :﴿ ياأيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ المزمل : ١، ٢ ] ثم نسخت، فصارت نافلة، أي : تطوُّعاً وزيادة على الفرائض.
وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها نافلة وجهاً حسناً، قالا : إنَّ الله قد غفر للنبيِّ ﷺ ما تقدَّم من ذنبه، وما تأخَّر، فكلُّ طاعةٍ يأتي بها ﷺ سوى المكتوبةِ لا تؤثر في كفَّارة الذنب، بل تؤثر في زيادة الدَّرجاتِ، وكثرة الثَّواب؛ فكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب، فلهذا سمِّي نافلة؛ بخلاف الأمة؛ فإنَّ لهم ذنوباً محتاجة إلى التكفير، فهذه الطاعة يحتاجون إليها؛ لتكفير السَّيئات عنهم؛ فثبت أنَّ هذه الطاعات إنَّما تكون زوائد ونوافل في حقِّ النبي ﷺ لا في حقِّ غيره، فلهذا قال :« نَافلةً لكَ »، فهذا معنى يخصِّصهُ.


الصفحة التالية
Icon