وقيل : أدخلني القبر مدخل صدقٍ، وأخرجني منه مخرج صدقٍ، وقيل : أدخلني حيثُ ما أدخلتني بالصِّدق، وأخرجني بالصِّدق، أي : لا تجعلني ممَّن يدخل بوجهٍ، ويخرج بوجهٍ، فإنَّ ذا الوجهين لم يكن عند الله وجيهاً.
ووصف الإدخال والإخراج بالصِّدقِ؛ لما يئول غليه الدُّخولُ والخروج من النصر، والعزِّ، ودولة الدِّين، كما وصف القدم بالصِّدق؛ فقال :﴿ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ [ المائدة : ٦٧ ].
وقال :﴿ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ].
وقال :﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ ﴾ [ التوبة : ٣٣ ].
ولما سأل الله تعالى النُّصرة، بيَّن أنَّه أجاب دعاءه؛ فقال :﴿ وَقُلْ جَآءَ الحق ﴾. وهو دينه وشرعه.
قوله :﴿ وَزَهَقَ الباطل ﴾. وهو كل ما سواه من الأديان، والشَّرائع، قاله السديُّ.
وقيل : جاء الحقُّ، أي : القرآن. وزهق الباطل، أي : ذهب الشيطان، قاله قتادة.
وقيل : الحقُّ : عبادة الله تعالى، والباطل عبادة الأصنام.
وعن ابن مسعودٍ : أنَّ النبي ﷺ دخل مكَّة يوم الفتح، وحول البيت ثلاثمائةٍ وستُّون صنماً، فجعل يضربها بعودٍ في يده، وجعل يقول :﴿ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل ﴾
[ أي : ذهب الشيطان ] كان الصَّنمُ ينكبُّ على وجهه.
قوله :﴿ إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً ﴾. أي : إنَّ الباطل، وإن كان له دولةٌ، لا يبقى، بل يزول بسرعة.
والزُّهوقُ : الذِّهاب، والاضمحلال؛ قال :[ الكامل ]

٣٤٥٧- ولقَدْ شَفَى نَفْسِي وأبْرَأ سُقمهَا إقْدامهُ بِمزَالةٍ لمْ يَزْهقِ
يقال : زهقت نفسي تزهقُ زهوقاً بالضمِّ، وأمَّا الزُّهوقُ، بالفتح، فمثال مبالغة؛ كقوله :[ الطويل ]
٣٤٥٨- ضَرُوبٌ بِنصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها ..........
قوله تعالى :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن ﴾ : في « مِنْ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها لبيان الجنس، قاله الزمخشري، وابن عطيَّة، وأبو البقاء، وردَّ عليهم أبو حيان : بأنَّ التي للبيان، لا بد وأن يتقدَّمها ما تبينه، لا أن تتقدم هي عليه، وهنا قد وجد تقدُّمها عليه.
الثاني : أنها للتبعيض، وأنكره الحوفي؛ قال :« لأنه يلزم ألاَّ يكون بعضه شفاء » وأجيب عنه : بأنَّ إنزاله إنَّما هو مبعضٌ، وهذا الجواب ليس بظاهرٍ، وأجاب أبو البقاء بأنَّ منه ما يشفي من المرض. وهذا يؤيده الدَّليلُ المتقدِّم، وأجاز الكسائيُّ :« ورَحْمةً » بالنصب عطفاً على ما تظاهر وهذا قد وجد بدليل رقية بعض الصحابة سيِّد الحيِّ الذي لدغ، بالفاتحة؛ فشفي.
الثالث : أنها لابتداءِ الغاية، وهو واضحٌ.
والجمهور على رفع « شفاء ورحمةٌ » خبرين ل « هُوَ »، والجملة صلة ل « مَا » وزيد بن عليٍّ بنصبهما، وخرِّجت قراءته على نصبهما على الحال، والخبر حينئذ « لِلمُؤمنينَ » وقدِّمت الحال على عاملها المعنوي، كقوله تعالى :﴿ والسماوات مَطْوِيَّاتٌ ﴾ [ الزمر : ٦٧ ] في قراءة من نصب « مَطْويَّاتٍ »، وقول النابغة :
٣٤٥٩- رَهْطُ ابنِ كُوزٍ مُحقِبِي أدْرَاعهُمْ فِيهمْ ورَهْطُ رَبيعَة بْنِ حُذارِ
وقيل : منصوبان بإضمار فعلٍ، وهذا عند من يمنع تقديمها على عاملها المعنوي، وقال أبو البقاء : وأجاز الكسائي :« ورحْمَةً » بالنصب عطفاً على « مَا » فظاهر هذا أن الكسائيَّ [ بقَّى ] « شِفاءٌ » على رفعه، ونصب « رَحْمةً » فقط عطفاً على « ما » الموصولة؛ كأه قيل : ونُنزِّل [ من القرآن رحمة، وليس في نقله ما يؤذن بأنه تلاها قرآناً، وتقدَّم الخلاف في ] « ونُنزِّلُ » تخفيفاً وتشديداً، والعامة على نون العظمة.


الصفحة التالية
Icon