ومجاهد « ويُنزِلُ » بياء الغيبة، أي : الله.

فصل في المراد ب « مِنْ » في الآية


قال المفسِّرون : إنَّ « من » هنا للجنسِ؛ كقوله تعالى :﴿ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان ﴾ [ الحج : ٣٠ ].
أي : ونُنزِّل من هذا الجنس الذي هو قرآنٌ ما هو شفاءٌ، فجميع القرآن شفاء للمؤمنين، أي : بيانٌ من الضلالة والجهالة يتبيَّن به المختلف، ويتَّضح به المشكل، ويستشفى به من الشُّبهة، ويهتدى به من الحيرة، وهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها.
واعلم أنَّ القرآن شفاء من المراض الرُّوحانيَّة، والأمراض الجسمانية.
أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية؛ لأنَّ المرض الروحانيَّ قسمان :
أحدهما : الاعتقادات الباطلة، وأشدُّها فساداً الاعتقادات الفاسدة في الإلهيَّات، والنبوَّات، والمعاد، والقضاءِ، والقدر؛ والقرآن كلُّه مشتملٌ على دلائل الحقِّ في هذه المطالب.
والثاني : الأخلاق المذمومة؛ والقرآن مشتمل على تفاصيلها، وتعريف ما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة، وكان القرآن شفاء من الأمراض الروحانيَّة.
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية؛ فلأنَّ التبرُّك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض؛ ويؤيده ما روي عن النبي ﷺ أنه قال :« مَنْ لَمْ يَستشْفِ بالقرآنِ، فلا شَفاهُ الله تعالى ».
وما ورد في حديث الرقية بالفاتحة.
ثم قال :﴿ ولا يَزيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً ﴾ المراد بالظالمين ها هنا : المشركون؛ لأنَّ سماع القرآن يزيدهم غضباً، وغيظاً، وحقداً، وكلَّما نزلت آيةٌ يتجدَّد تكذيبٌ؛ فتزداد خسارتهم.
قال مجاهد وقتادة : لم يجالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادةٍ أو نقصان : قضاء الله الذي قضاه شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين، ولا يزيد الظَّالمين إلا خساراً.
ثم إنه تعالى ذكر السَّبب الأصلي في وقوع هؤلاء الجهَّال في أودية الضَّلال، وهو حبُّ الدنيا، والرغبة في المال والجاه، واعتقادهم أن ذلك إنَّما يحصل بجدِّهم واجتهادهم، فقال :﴿ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾.
قال ابن عباس : الإنسان ها هنا هو الوليد بن المغيرة.
والأوْلى أنَّ كل إنسان من شأنه إذا فاز بمقصوده، غترَّ وصار غافلاً عن عبادة الله - تعالى - وتمرَّد على طاعته؛ كما قال :﴿ كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى ﴾ [ العلق : ٦، ٧ ].
قوله تعالى :﴿ وَنَأَى ﴾ : قرأ العامة بتقديم الهمزة على حرف العلة؛ من النَّأي، وهو البعدُ، وابن ذكوان - ونقلها أبو حيان وابن الخطيب عن ابن عامر وأبو جعفر :« نَاءَ » مثل « جَاءَ » بتقديم الألف على الهمزة، وفيها تخريجان : أحدهما : أنها من : نَاءَ، يَنُوء، أي : نَهضَ؛ قال :[ الرجز ]


الصفحة التالية
Icon