أي : لا ترفع صوتك بقراءتك، ودعائك، ولا تخافت بها.
والمُخَافتَةُ : خفض الصَّوت والسُّكوتُ.
يقل : خفت صوته يخفته خفوتاً، إذا ضعف وسكن، وصوتٌ خفيتٌ، أي : خفيضٌ.
ومنه يقال للرجل، إذا مات : قد خفت كلامه، أي : انقطع كلامه، وخفت الزَّرعُ، إذا ذبل، وخفت الرَّجل بقراءته، يتخافتُ بها، إذا لم يبيِّن قراءته برفع الصوت، وقد تخافت القوم، إذا تسارُّوا بينهم.

فصل في المستحب في الدعاء


واعلم أن الجهر بالدعاء منهيٌّ عنه، والمبالغة في الإسرار غير مطلوبة، والمستحبُّ التوسُّط، وهو أن يسمع نفسه؛ كما روي عن ابن مسعود : أنه قال : لم يتخافت من يسمع أذنيه.
واعلم أن العدل هو رعاية الوسط؛ كما مدح الله هذه الأمَّة بقوله :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
ومدح المؤمنين بقوله :﴿ والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٧ ].
وأمر الله تعالى رسوله ﷺ فقال :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ] فكذا ههنا : نهى عن الطَّرفين، وهما الجهر والمخافتة، وأمر بالتوسُّط بينهما، فقال :﴿ وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً ﴾.
وقال بعضهم : الآية منسوخة بقوله - تعالى- :﴿ ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ [ الأعراف : ٥٥ ].
وهو بعيدٌ.
واعلم أنه تعالى، لمَّا أمر بأن لا يذكر، ولا ينادى، إلا بأسمائه الحسنى، علَّم كيفيَّة التمجيد؛ فقال :
﴿ وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل ﴾.
فذكر ثلاثة أنواع من صفات التنزيه والجلال :
الأول : أنه لم يتخذ ولداً، والسَّببُ فيه وجوهٌ :
أولها : أنَّ الولد هو الشيء المتولِّد من أجزاء ذلك الشيء، فكلُّ من له ولدٌ، فهو مركبٌ من الأجزاء، والمركَّب محدثٌ، والمحدث محتاجٌ؛ لا يقدر على كمال الإنعامِ؛ فلا يستحقُّ كمال الحمدِ.
وثانيها : أنَّ كل من له ولدٌ، فهو يمسك جميع النِّعم لولده، فإذا يكن له ولدٌ، أفاض كلَّ النِّعم على عبيده.
وثالثها : أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه، فلو كان له ولد، لكان منقضياً فانياً، ومن كان كذلك، لم يقدر على كمال الإنعام في جميع الأوقات؛ فوجب ألاَّ يستحقَّ الحمد على الإطلاق.
وهذه الآية ردٌّ على اليهود في قولهم ﴿ عُزَيْرٌ ابن الله ﴾ [ التوبة : ٣٠ ]، وردٌّ على النصارى في قولهم ﴿ المسيح ابن الله ﴾ [ التوبة : ٣٠ ] وعلى مشركي العرب في قولهم :« المَلائِكةُ بنَاتُ الله ».
والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله :﴿ وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك ﴾.
والسَّببُ في اعتبار هذه الصفة : أنَّه لو كان له شريكٌ، فلا يعرف كونه مستحقًّا للحمد والشُّكر.
والنوع الثالث : قوله :﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل ﴾.
والسببُ في اعتباره : أنه لو جاز عليه وليٌّ من الذلِّ، لم يجب شكره؛ لتجويز أن يكون غيره حمله على ذلك الإنعام.


الصفحة التالية
Icon