قال :« فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامةِ وفي أحدهما غِنًى عن الآخر؟. قلت : فائدته التأكيد فرُبَّ مستقيم مشهودٌ له بالاستقامةِ، ولا يخلو من أدنى عوجٍ عند السَّيرِ والتصفُّح ».
الرابع : أنه حالٌ ثانية، والجملة المنفيَّة قبله حال أيضاً، وتعدد الحال لذي حال واحد جائزٌ. والتقدير : أنزله غير جاعلٍ له عوجاً قيماً.
والخامس : أنه حالٌ أيضاً، ولكنه بدلٌ من الجملة قبله لأنها حال، وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز، وهذا كما أبدلت الجملة من المفرد في قوله :« عَرفْتُ زيداً أبو مَنْ هو ».
والضمير في « لَهُ » فيه وجهان، أحدهما : أنه للكتاب، وعليه التخاريج المتقدمة. والثاني : أنه يعود على « عضبدِه »، وليس بواضحٍ.
وقرأ العامة بتشديد الياء، وأبانُ بن تغلب بفتحها خفيفة. وقد تقدَّم القولُ فيها.
ووقف حفص على تنوين « عِوَجاً » يبدله ألفاً، ويسكت سكتةً لطيفة من غير قطع نفس، إشعاراً بأنَّ « قيِّماً » ليس متصلاً ب « عوجاً »، وإنما هو من صفة الكتاب. وغيره لم يعبَأ بهذا الوهم فلم يسكت اتِّكالاً على فهم المعنى.
قلت : قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعض مصاحف الصحابة :« ولم يَجْعلْ له عوجاً، لكن جعله قيِّماً ». وبعض القراء يطلق فيقول : يقف على « عِوَجاً »، ولم يقولوا : يبدل التنوين ألفاً، فيحتمل ذلك، وهو أقرب لغرضه فيما ذكرت.
ونقل أبو شامة عن ابن غلبون وأبي علي الأهوازيِّ، يعني الإطلاق. ثم قال :« وفي ذلك نظرٌ - أي في إبدال التووين ألفاً - فإنه لو وقف على التنوين لكان أدلَّ على غرضه، وهو أنه واقفٌ بنيَّة الوصل ». انتهى.
وقال الأهوازيُّ :« ليس هو وقفاً مختاراً، لأنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، معناه : أنزل على عبده الكتاب قيِّماً ولم يجعل له عوجاً ». قال شهاب الدين : دعوى التقديم والتأخير وإن كان قال به غيره كالبغوي والواحدي وغيرهما إلاَّ أنَّها مردودةٌ لأنَّها على خلاف الأصل، وقد تقدَّم تحقيقه.
وفعل حفصٌ في مواضع من القرآن مثل فعله هنا من سكتةٍ لطيفةٍ نافية لوهم مخلٍّ. فمنها : أنَّه كان يقف على « مَرْقدِنا »، ويبتدئ :﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن ﴾ [ يس : ٥٢ ]. قال : لئلاَّ يتوهَّم أنَّ « هذا » صفة ل « مَرْقدِنا » فالوقف يبين أنَّ كلام الكفار انقضى، ثم ابتدئ بكلامِ غيرهم. قيل : هم الملائكة. وقيل : المؤمنون. وسيأتي في يس ما يقتضي أن يكون « هذا » صفة ل « مَرْقدِنا » فيفوتُ ذلك.
ومنها :﴿ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴾ [ القيامة : ٢٧ ]. كان يقف على نون « مَنْ » ويبتدئ « راقٍ » قال :« لئلاَّ يتوهَّم أنها كلمة واحدة على فعَّال اسم فاعل للمبالغة من مرق يمرُق فهو مرَّاق ».