فالجواب : أنَّ مكالمة الله إنما تكون منصباً عالياً، إذا كان على سبيل الإكرامِ والإعظام، فأما إذا كان على سبيل الإهانة، والإذلال، فلا.
وقوله :﴿ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ ﴾ لتأكيد النَّفي، معناه : لا يصحُّ منَّي أن أسجد لبشر.
وحاصل كلامه : أن كون بشراً يشعر بكمونه جسماً كثيفاً، وهو كان روحانيًّا لطيفاً، فكأنه يقول : البشر جسماني كثيف، وأنا روحاني لطيف، والجسماني الكثيف أدون حالاً من الروحاني اللطيف، فيكف يكون للأدنى سجود للأعلى؟.
وأيضاً : فآدم مخلوقٌ من صلصالٍ، تولَّد من حمأ مسنون، وهذا الأصل في غاية الدناءة، وأصل « إبْليسَ » : هو النار، والنار هي أشرف العناصر فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم؛ فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم، والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدنى؛ فهذا مجموع [ شبهة ] إبليس.
﴿ قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾، وهذا ليس جواباً عن الشُّبهة على سبيل التصريح، بل جواب على سبيل التنبيه.
وتقديره : أن الذي قاله الله تعالى نصٌّ، والذي قاله إبليس قياس، ومن عارض النصَّ بالقياس، كان رجيماً ملعوناً، وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة الأعراف.
والضمير في :« مِنْهَا » : قيل : من جنَّة عدنٍ، وقيل : من السمواتِ، وقيل : من زمرة الملائكةِ.
﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين ﴾ قال ابن عباسٍ رضي الله عنه : يريد يوم الجزاء حيث يجازى العبادُ بأعمالهم.
و ﴿ إلى يَوْمِ ﴾ يجوز أن يتعلق بالاستقرار في :« عَليْكَ »، ويجوز أن يتعلق بنفس اللعنة.
فإن قيل : كلمة « إلى » تفيد انتهاء الغايةِ؛ فهذا يشعر بأنَّ اللعن لا يحصل إلاَّ يوم الدِّين، وعند القيامة يزول اللَّعن.
فالجواب من وجوه :
الأول : أن المراد التأبيد، وذكر القيامة أبعد غاية تذكرها الناس في كلامهم؛ كقولهم :﴿ مَا دَامَتِ السماوات والأرض ﴾ [ هود : ١٠٨ ] في التَّأيد.
والثاني : أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين، من غير أن يعذب، فإذا جاء ذلك اليوم، عذِّب عذاباً [ ينسى ] اللعن معه، فيصير اللَّعن حنيئذٍ كالزائلِ؛ بسبب أنَّ شدّضة العذاب تذهل عنه.
قوله :﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ وهذا متعلق بما تقدم، والتدقير : إذا جعلتني رجيماً إلى يوم القيامة؛ فأنظريني، أراد ألاَّ يموت، والمراد من قوله :﴿ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾، يوم البعثِ، والنُّشورِ، وهو يوم القيامة؛ فقال تعالى :﴿ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم ﴾ قيل : وقت النفخةِ الأولى حين يموت الخلائق؛ لأن من المعلوم أن تموت الخلائق فيه.
وقيل : سمِّي معلوماً؛ لأنه لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة ﴾ [ لقمان : ٣٤ ].
وقيل : يوم الوقت المعلوم : يوم القيامة.