الرابع : قل يا محمد للَّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : يا أيُّها الناس، من ربكم الحقُّ، وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضَّلال، ليس إليَّ من ذلك شيءٌ، وقد بعثتُ إلى الفقراءِ والأغنياء ﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ وهذا على طريق التهديد والوعيد، كقوله ﴿ اعملوا مَا شِئْتُم ﴾ [ فصلت : ٤٠ ] والمعنى : لست بطارد المؤمنين لهواكم، فإن شئتم، فآمنوا، وإن شئتم، فاكفروا.
قال ابن عبَّاس : معنى الآية : من شاء الله له الإيمان، آمن، ومن شاء له الكفر، كفر.
فصل
قالت المعتزلة : هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الإيمان والكفر والطاعة والمعصية باختيار العبد.
قال ابن الخطيب : وهذه الآية من أقوى الدَّلائلِ على صحَّة مذهب أهل السُّنَّة؛ لأنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ حصول الإيمان، وحصول الكفر موقوفان على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر، وصريح العقل يدلُّ على أنَّ الفعل الاختياريَّ يمتنع حصوله بدون القصد إليه، وبدون الاختيار.
وإذا عرفت هذا، فنقول : حصول ذلك القصد والاختيار، إن كان بقصدٍ آخر يتقدَّمه، لزم أن يكون كلُّ قصدٍ واختيارٍ مسبوقاً بقصدٍ آخر، واختيارٍ آخر إلى غير نهاية، وهو محالٌ؛ فوجب انتهاء ذلك القصد والاختيار إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة، وعند حصول ذلك القصد الضروريِّ، والاختيار الضروريِّ، يجب الفعل؛ فالإنسان شاء أو لم يشأ، فإنه تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعاصي، وإذا حصلت تلك المشيئةُ الجازمةُ، فشاء أو لم يشأ، يجب حصول الفعل، فالإنسان مضطرٌّ في صورة مختار.
فصل
دلَّت الآية على أنَّ صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والدَّاعي محالٌ، وعلى أنَّ صيغة الأمر لا لمعنى الطَّلب في كتاب الله كثيرةٌ.
قال عليٌّ - رضي الله عنه- : هذه الصيغة تهديدٌ ووعيدٌ، وليست تخييراً.
ودلَّت أيضاً على أنَّه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين، ولا يتضرر بكفر الكافرين، بل نفع الإيمان يعود عليهم، وضرر الكفر يعود عليهم؛ لقوله تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَ ﴾ [ الإسراء : ٧ ].
قوله :﴿ وَقُلِ الحق ﴾ : يجوز فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه خبر لمبتدأ مضمرٍ، أي : هذا، [ أي ] القرآن، أو ما سمعتم الحقُّ.
الثاني : أنه فاعل بفعلٍ مقدرٍ، دلَّ عليه السياقُ، أي : جاء الحق، كما صرَّح به في موضع آخر [ في الآية ٨١ من الإسراء ]، إلاَّ أنَّ الفعل لا يضمر إلاَّ في مواضع تقدَّم التنبيه عليها، منها : أن يجاب به استفهام، أو يردَّ به نفي، أو يقع بعد فعلٍ مبني للمفعول، لا يصلح إسناده لما بعده؛ كقراءة :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾ [ النور : ٣٦ ] كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
الثالث : أنه مبتدأ، وخبره الجار بعده.
وقرأ أبو السمال قعنب :« وقُلُ الحقَّ » بضم اللام؛ حيث وقع، كأنه إتباعٌ لحركة القاف، وقرأ أيضاً بنصب « الحقَّ » قال صاحب « اللَّوامح » :« هو على صفة المصدر المقدَّر؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على مصدره، وإن لم يذكر، فينصبه معرفة، كما ينصبه نكرة، وتقديره : وقل القول الحقَّ، وتعلق » مِنْ « بمضمرٍ على ذلك، أي : جاء من ربكم » انتهى.