قوله تعالى :﴿ إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ الآياتِ، لمَّا شرح أحوال أهل العقاب، أتبعه بصفة أهل الثَّواب.
وروي أنَّ سلمان الفارسيِّ رضي الله عنه لما سمع قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٣ ] مَرَّ ثلاثةُ أيَّام من الخوفِ لا يعقلُ، فَجيء به إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم فسأله، فقال : يا رسول الله، نزلت هذه الآية :﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٣ ] : فوالذي بعثك بالحق نبيًّا، لقد قطعت قلبي فأنزل الله تعالى ﴿ إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾.
قال ابن عباس رضي الله عنهما :[ أراد ] بالمتقين : الذين اتقوا الشِّرك بالله تعالى، والكفر به، وبه قال جمهور الصحابة، والتَّابعين.
وهو الصحيح؛ لأنَّ المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة، كما أن الضَّارب هو الآتي بالضرب، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة، فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضارباً، وقاتلاً، أن يكون آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل، ليس من شرط صدق الوصف بكونه متَّقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى؛ لأنَّ الآتي بفردِ واحدٍ من أفراد التقوى، يكون آتياً بالتقوى؛ لأنَّ كل فردٍ من أفراد الماهية، يجب كونه مشتملاً على تلك الماهيَّة، وبهذا التحقيق استدلُّوا على أنَّ الأمرَ لا يفيد التَّكرار.
وإذا ثبت هذا فنقول : أجمعت الأمة على أنَّ التقوى عن الكفر شرط في حصول المحكم بدخول الجنة.
وقال الجبائي، وجمهور المعتزلةِ : المتقين : هم الَّذين اتَّقوا جميع المعاصي، قالوا : لأنه اسم مدحٍ، فلا يتناولُ إلاَّ من [ كان ] كذلك.
واعلم أنَّ الجنات أربعةٌ؛ لقوله تعالى :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمن : ٤٦ ] ثم قال :﴿ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمن : ٦٢ ] فيكمن [ المجموع ] أربعة.
قوله :« وعُيُونٍ » : قرأ ابن كثيرٍ، والأخوان، وأبو بكر، وابن ذكوان : بكسر عين « عِيُونٍ » منكراً، والعينُّ معرف حيث وقع؛ والباقون : بالضمِّ، وهو الأصل.
فصل
الجنَّاتُ : البَساتِينُ، والعُيونُ : يحتمل أن يكون المراد بها الأنهار المذكمورة في قوله تعالى :﴿ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ﴾ [ محمد : ١٥ ]، ويحتمل أن يكمون امراد من هذه العيون منافع مغايرة لتلك الأنهار.
قوله :﴿ ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ﴾ العامة على وصل الهمزة من : دَخَلَ يَدخُل، وقد تقدم خلاف القراء في حركة هذا التنوين، لالتقاءِ السَّاكنين في البقرة :[ ١٧٣ ].
وقرأ يعقوب رحمه الله بفتح التنوين وكسر الخاء، وتوجيهها : أنَّه أمرٌ من : أدْخَلَ يَدْخلُ فلما وقع بعد « عُيونِ » ألقى حركة الهمزة على التنوين؛ لأنها همزة قطع ثمَّ حذفها، والأمر من الله تعالى، للملائكةِ، أي : أدخلوها أيَّاهم.
وقرأ الحسن، ويعقوب أيضاً :« أُدخِلُوها » ماضياً مبنياً للمفعول، إلا أنَّ يعقوب ضمَّ التنوين ووجهه : أنه أخذه من أدخل رباعياً، فألقى حركة همزة القطع على التنوين كما ألقى حركة المفتوحةِ في قراءته الأولى، والحسن كسرهُ على أصل التقاءِ الساكنين، ووجهه : أن يكون أجرى همزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط.