قوله :﴿ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾.
ليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه؛ لأنهم خلقوا صغاراً، ولا عقل لهم، ولا تكليف عليهم، بل المراد أنَّه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار :﴿ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ أي حفاة، عراة، بغير أموال، ولا أعوانٍ، ونظيره قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ].
ثم قال تعالى :﴿ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً ﴾ أي كنتم مع التعزُّز على المؤمنين بالأموال والأنصار، تنكرون البعث، فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا، وشاهدتم أنَّ البعث والقيامة حقٌّ.
قوله :﴿ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً ﴾ « أنْ » هي المخففة، وفصل بينها وبين خبرها؛ لكونه جملة فعلية متصرفة غير دعاءٍ بحرف النفي، و « لكم » يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير، و « مَوْعداً » هو الأول، ويجوز أن يكون معلَّقاً بالجعل، أو يكون حالاً من « مَوعِداً » إذا لم يجعل الجعل تصييراً، بل لمجرد الإيجادِ.
و « بَلْ » في قوله :« بَل زَعَمتُمْ » لمجرَّد الانتقالِ، من غير إبطالٍ.
قوله :﴿ وَوُضِعَ الكتاب ﴾ : العامة على بنائه للمفعول، وزيد بن عليٍّ على بنائه للفاعل، وهو الله، أو الملك، و « الكِتاب » منصوب مفعولاً به، و « الكتابُ » جنس للكتب؛ إذ من المعلوم أنَّ لكلِّ إنسانٍ كتاباً بخصُّه، وقد تقدَّم الوقف على « مَا لهذا الكتابِ » وكيف فصلت لام الجرِّ من مجرورها خطًّا في سورة النساء عند ﴿ فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ﴾ [ النساء : ٧٨ ].
و « لا يُغَادِرُ » جملة حالية من « الكتاب ». والعامل الجار والمجرور؛ لقيامه مقام الفعل، أو الاستقرار الذي تعلق به الحال.
قوله :« إلاَّ أحْصَاهَا » في محل نصب نعتاً لصغيرة وكبيرة، ويجوز أن تكون الجملة في موضع المفعول الثاني؛ لأنَّ « يُغَادِرُ » بمعنى « يترك » و « يتركُ » قد يتعدَّى لاثنين؛ كقوله :[ البسيط ]

٣٥٣٦-................. فَقدْ تَركْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشبِ
في أحد الوجهين.
روى أبو هريرة عن النبيِّ ﷺ قال :« يُحشَرُ النَّاس على ثلاثِ طرائقَ رَاغبينَ رَاهبينَ، فاثْنانِ على بَعيرٍ، وثَلاثةٌ على بَعيرٍ، وأرْبعةٌ على بَعيرٍ، وعَشرةٌ على بَعيرٍ، وتَحشُرَ بقيَّتهُم النَّارُ، تَقيلُ مَعهُمْ، حَيْثُ قَالُوا، وتَبِيتُ معهم؛ حيث باتوا، وتُصْبِحُ معهم، حيث أصبحُوا، وتمسي معهم، حيث أمسوا ».
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت :« قلت : يا رسول الله كيف يُحْشَر النَّاسُ يوم القِيامة؟ قال : حُفاةً عُراةً، قالت : قلتُ : والنِّساء؟ قال : والنِّساء، قالت : قلت : يا رسول الله، أستحي، قال : يا عائشة، الأمر اشدُّ من ذلك؛ أن يهمهم أن ينظر بعضهم لبعض ».
وقيل : توضعُ بين يدي الله عزَّ وجلَّ، ﴿ فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ ﴾ خائفين ﴿ مِمَّا فِيهِ ﴾ في الكتاب من الأعمال الخبيثة، كيف تظهر لأهل الموقف، فيفتضحون ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ إذا رأوها :﴿ ياويلتنا ﴾ يا هلاكنا، والويلُ والويلة : الهلكة، وكأنَّ كلَّ من وقع في مهلكة، دعا بالويل، ومعنى النِّداء تنبيه المخاطبين.


الصفحة التالية
Icon