وعلى قول الفراء ليكون « بينهم » مفعولاً أول و « مَوبقاً » مفعولاً ثانياً، والمَوْبِقُ هنا : يجوز أن يكون مصدراً، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون مكاناً.
قال ابن عباس : وهو وادٍ في النَّار.
وقال ابن الأعربيِّ : كل حاجزٍ بين الشيئين يكون المَوبِقَ.
وقال الحسن :« مَوْبقاً » أي : عداوة، هي في شدَّتها هلاك؛ كقولهم : لا يكن حُبك كلفاً.
وقيل : الموبقُ : البَرْزَخُ البعيد.
وجعلنا بين هؤلاء الكفَّار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً، يهلك فيه النصارى؛ لفرط بعده؛ لأنَّهم في قاع جهنَّم، وهو في أعلى الجنا.
قوله : روَرَأَى المجرمون النار } الآية.
﴿ وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا ﴾، في هذا الظنِّ قولان :
الأول : أنه بمعنى العلم واليقين.
والثاني : قال ابن الخطيب : الأقرب إلى المعنى : أن هؤلاء الكفار يرون النَّاس من مكانٍ بعيدٍ، فيظنُّون أنهم مواقعوها في تلك السَّاعة، من غير تأخير من شدَّة ما يسمعون من تغيُّظها وزفيرها، كقوله :﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ [ الفرقان : ١٢ ].
وقوله :﴿ مُّوَاقِعُوهَا ﴾ أي : مخالطوها؛ فإنَّ مخالطة الشيء لغيره، إذا كان تامَّة قويَّة، يقال لها : مواقعة.
قوله :« مَصْرِفاً » المصرف المعدل، اي : لم يجدوا عنها معدلاً.
قال الهذليُّ :[ الكامل ]

٣٥٣٨- أزُهَيْرُ هَلْ عَن شَيْبةٍ مِنْ مصْرفِ أمْ لا خُلودَ لبَاذلٍ مُتكلِّفِ
والمصرف يجوز أن يكون اسم مكانٍ، أو زمانٍ، وقال أبو البقاء :« مَصْرِفاً : أي انصرافاً، ويجوز أن يكون مكاناً ». قال شهاب الدين : وهذا سهوٌ، فإنه جعل المفعل بكسر العين مصدراً لما مضارعه يفعل بالكسر من الصحيح، وقد نصُّوا على أنَّ اسم مصدر هذا النوع مفتوح العين، واسم زمانه ومكانه مكسوراً، نحو : المَضْرَبُ والمَضْرِبُ.
وقرأ زيد بن عليٍّ « مَصْرَفاً » بفتح الراء جعله مصدراً؛ لأنه مكسور العين في المضارع، فهو كالمضرب بمعنى الضَّرب، وليت أبا البقاء ذكر هذه القراءة ووجَّهه بما ذكره قبل.
قوله :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ﴾ بينَّا ﴿ فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾.
اعلم أن الكفَّار، لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم، وأبطل الله أقوالهم الفاسدة، وذكر المثلين المتقدِّمين، ذكر بعده :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾ وهو إشارة إلى ما سبق، والتصريف يقتضي التكرير، والأمر كذلك؛ لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوهٍ كثيرةٍ، والكفار مع تلك الجوابات الصَّافية، والأمثلة المطابقة لا يتركون المجادلة الباطلة؛ فقال :﴿ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾.
قوله :﴿ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾ : يجوز أن تكون « مِنْ كلِّ » صفة لموصوف محذوف، وهو مفعول « صرَّفنا »، أي : صرَّفنا مثلاً من كلِّ مثلٍ، ويجوز أن تكون « مِنْ » مزيدة على رأي الأخفش والكوفيين.


الصفحة التالية
Icon