واعلم أنَّه كان ليوسف - عليه السلام - ولدان : أفرائيم وميشا، فولد أفرائيم نون وولد نون يوشع بن نون، وهو فتى موسى، ووليُّ عهده بعد وفاته، وأما ولد ميشا، فقيل : إنه جاءته النُّبوَّة قبل موسى بن عمران، وأهل التَّوراة يزعمون أنَّهُ هو الذي طلب هذا العالم ليتعلَّم منه، وهو العالمُ الذي خرق السَّفينة، وقتل الغلام، وبنى الجدار، وموسى بن ميشا معه، هذا قول جمهور اليهود.
واحتجَّ القفال على صحَّة قول الجمهور بأنه موسى صاحب التَّوراة، قال : إنَّ الله تعالى ما ذكر موسى في كتابه إلاَّ وأراد به موسى صاحب التوراة، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه، ولو كان المرادِ شحصاً آخر يسمَّىموسى غيره، لعرّفه بصفةٍ تميِّزه وتزيل الشبهة كما أنَّه لما كان المشهور في العرف أنَّ ابا حنيفة هو الرجل المفتي، فلو ذكرنا هذا الاسم، وأردنا به غيره، لقيَّدناهُ، كما نقول : أبو حنيفة الدِّينوريُّ.

فصل في حجة القائلين بأنه موسى بن ميشا


واحتج القائلون بأنَّ موسى بن ميشا بأنَّ الله تعالى بعد أن أنزل عليه التوراة، وكلَّمه بلا واسطة، وخصَّه بالمعجزات الباهرة العظيمة التي لم يتَّفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يبعد أن يبعثه بعد ذلك إلى التَّعليمِ والاستفادة.
[ فالجواب ] عنه : بأنَّه ليس ببعيدٍ أن يكون العالم العامل الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء؛ فيحتاج إلى تعلُّمها إلى من هو دونه، وهو أمرٌ متعارفٌ.

فصل في اختلافهم في فتى موسى


واختلفوا في فتى موسى، فالصحيح أنه يوشعُ بن نونٍ؛ كما روي في الحديث المتقدِّم، وقيل : كان أخا يوشع.
وروى عمرو بن عبيدٍ عن الحسن أنَّه عبدٌ لموسى.
قال القفَّال والكعبي : يحتمل ذلك.
قال - ﷺ - :« لا يقُولنَّ أحَدُكمْ : عَبْدِي وأمَتِي، وليقُلْ : فَتَايَ وفَتَاتِي ».
وهذا يدلُّ على أنهم كانوا يسمُّون العبد فتًى، والأمة فتاةً.
قوله :« لا أبْرَحُ » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون ناقصة، فتحتاج إلى خبر.
والثاني : أن تكون تامة، فلا تحتاج إليه، فإن كانت الناقصة، ففيها تخريجان :
أحدهما : أن يكون الخبر محذوفاً؛ للدلالة عليه تقديره : لا أبرح أسيرُ حتَّى ابلغ، إلاَّ أن حذف الخبر في هذا الباب نصَّ بعض النحويِّين على أنه لا يجوز ولو بدليلٍ، إلا في ضرورة؛ كقوله :[ الكامل ]
٣٥٤٥- لَهفِي عَليْكَ للَهْفةٍ مِنْ خَائفٍ يَبْغِي جِوارَكَ حِينَ ليْسَ مُجِيرُ
أي : حين ليس في الدنيا مجيرٌ.
والثاني : أنَّ في الكلام حذف مضافٍ، تقديره : لا يبرحُ مسيري، حتَّى أبلغ، ثم حذف « مسير » وأقيمت الياء مقامه، فانقلبت مرفوعة مستترة بعد أن كانت مخفوضة المحلِّ بارزة، وبقي « حتَّى أبلغ » على حاله هو الخبر.
وقد خلط الزمخشري هذين الوجهين، فجعلهما وجهاً واحداً، ولكن في عبارة حسنة جدًّا، فقال :« فإن قلت :» لا أبْرَحُ « إن كان بمعنى » لا أزولُ « من برح المكان، فقد دلَّ على الإقامةِ، لا على السَّفر، وإن كان بمعنى » لا أزَالُ « فلا بدَّ من خبر، قلت : هي بمعنى » لا أزَالُ « وقد حذف الخبر؛ لأنَّ الحال والكلام معاً يدلان عليه؛ أمَّا الحال، فلأنها كانت حال سفرٍ، وأمَّا الكلام، فلأن قوله » حتَّى أبلغ « غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له، فلا بدَّ أن يكون المعنى : لا أبرحُ أسير حتَّى أبلغَ، ووجه آخرُ : وهو أن يكون المعنى : لا يبرحُ مسيري، حتَّى أبلغ على أنَّ » حتَّى أبلغَ « هو الخبر، فلمَّا حذف المضافُ، أقيم المضافُ إليه مقامهُ، وهو ضمير المتكلِّم، فانقلب الفعل من ضمير الغائب إلى لفظ المتكلِّم، وهو وجهٌ لطيفٌ ».


الصفحة التالية
Icon