والوجه الآخر : أن قوله « إلاَّ آل لوطٍ » لمَّا حكم عليهم بغير الحكم الذي حكم به على قوم مجرمين، اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله :﴿ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ تأكيداً لمعنى الاستثناء، إذ المعنى : إلا آل لوط لم نرسل إليهم بالعذاب، وجاتهم مرتبة على [ عدم ] الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظير ذلك : قام القومُ إلاَّ زيداً لم يقم أو إلاَّ زيداً فإنه لم يقم، فهذه الجملة تأكيدٌ لما تضمَّنهُ الاستثناء من الحكم على ما بعد إلاَّ بضدِّ الحكم السَّابق على المستثنى منه، ف :« إلاَّ امْرَأتهُ » على هذا التدقير الذي قرَّرناه مستثنى من :« آلَ لُوطٍ » ؛ لأنَّ الاستثناء ممَّا جيء به للتَّأسيس أولى من الاستثناء ممَّا جيء به للتأكيد.
قوله « قدَّرْنَا » قرأ أبو بكر ههنا، وفي سورة النمل بتخفيف الدَّال، والباقون بتشديدها، وهما لغتان : قَدَّر، وقَدَر.
قوله :« إنَّها » كسرت من أجل اللاّم في خبرها، ولولا [ لَفُتِحَتْ ]، وهي معلقة لما قبلها؛ لأنَّ فعل التقدير قد يعلق إجراء له مجرى العلم إمَّا لكونه بمعناه، وإمَّا لأنه مترتب عليه.
قال الزمخشري :« فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله :﴿ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين ﴾، والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت : لتضمن فعل التقدير معنى العلم ».
قال أبو حيَّان رحمه الله تعالى « وكسرت » إِنَّها « إجراء لفعل التقدير مجرى العلم ».
وهذا لا يصحُّ علة لكسرها، إنَّما يصحُّ علةً لتعليقها الفعل قبلها.
فصل
معنى التقدير في اللغة : جعل الشيء على مقدار غيره، يقال : قدر هذا الشيثء بهذا، أي : اجعله على مقداره، وقدَّر الله سبحانه الأقوات، أي : جعلها على مقدار الكفاية، ثمَّ يفسر التقدير بالقضاء فيقال : قضى الله عليه، وقَدرَ عليه، أي : جعله على مقدار ما يكفي في الخير، والشر. وقيل : معنى :« قَدَّرْنَا » كتبنا. وقال الزجاج : دبرنا. فإن [ قيل ] لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عزَّ وجلَّ؟
فالجواب : إنَّما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله، كما يقول خاصة الملك : دبرنا كذا [ وأمرنا بكذا ]، والمدبر، والآمر هو الملك لا هم، وإنَّما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك، فكذا هنا.
قوله تعالى :﴿ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين ﴾ في موضع مفعول، التقدير : قضينا أنها تتخلف، وتبقى مع من يبقى حتَّى يهلك، فتلحق بالهالكين.