وقد ردَّ ابن عطية على القول السادس بقوله : والكاف في قوله :« كَمَا » متعلقة بفعلٍ محذوفٍ، تقديره : وقل إنِّي أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلنا، فالكاف : اسم في موضعِ نصبٍ، هذا قول المفسِّرين.
وهو غير صحيح؛ لأنَّ :« كما أنزلنا » ليس ممَّا يقوله محمد صلوات الله وسلامه عليه بل هو من كلام الله تعالى فيفصل الكلام، وإنَّما يترتب هذا القول بأن يقدر أن الله تعالى قال له : أنذر عذاباً كما.
والذي أقول في هذا المعنى :« وقل إنّي أنا النذيرُ المبين كما قال قلبك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك ».
ويحتمل أن يكون المعنى : وقل : إنِّي أنا النذيرُ المبينُ، كما قد أنزلنا في الكتب أنَّك ستأتي نذيراً على أن المقتسمين، هم أهل الكتاب، وقد اعتذر بعضهم عمَّا قاله أبو محمد فقال : الكاف متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى، تقديره : أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا، وإن كان المنزل الله، كما تقول بعض خواصِّ الملكِ : أ/رنا بكذا، وإن كان الملك هو الآمرُ.
وأما قول أبي محمدٍ :« وأنزلنا عليهم، كما أنزلنا عليك » ؛ كلامٌ غير منتظم، ولعلَّ أصله : وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم : ، كذا أصلحه أبو حيان. وفيه نظر، كيف يقدر ذلك، والقرآن ناطق بخلافه، وهو قوله :﴿ عَلَى المقتسمين ﴾.
التاسع : أنه متعلق بقوله :« لنَسَألنَّهُمْ » تقديره : لنسألنَّهم أجمعين، مثل ما أنزلنا.
العاشر : أنَّ الكاف مزيدة، تقديره : أنا النذير ما أنزلناه على المقتسمين.
ولا بد من تأويل ذلك على أنَّ « ما » معفولٌ ب « النذير » عند الكوفيين، فإنَّهم يعملون الوصف للموصوف، أو على إضمار فعل لائقٍ أي : أنذركم ما أنزلناه كما يليق بمذهب البصريين.
الحادي عشر : أنه متعلق ب « قل »، التقدير : وقيل قولاً كما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم، فالقول للمؤمنين في النَّذارةِ كالقول للكفَّار المقتسمين؛ لئلا يظنُّوا أنَّ إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين، بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة، تنذر المؤمن، كما تنذر الكافر، كأنه قال : أنا النذيرُ لكم، ولغيركم.
فصل
قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما : المقتسمون : هم الَّذين اقتسموا طرق مكَّة يصدُّون النَّاس عن الإيمان برسول الله ﷺ ويقرب عددهم من أربعين.
وقال مقاتل بن سليمان رحمه الله : كانوا ستَّة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيَّام الموسم، فاقتسموا شعاب مكَّة، وطرقها يقولون لمن سلكها : لا تغتروا بالخارج منَّا، والمدعي للنبوَّة، فإنه مجنونٌ، وكانوا ينفِّرُونَ النَّاس عنه بأنه ساحرٌ، أو كاهنٌ، أو شاعرٌ، فطائفة منهم تقول : ساحرٌ، ، وطائفة تقول : إنه كاهنٌ، وطائفة تقول : إنه شاعرٌ، فأنزل الله تعالى بهم خزياً؛ فماتوا أشدَّ ميتة.