قوله :﴿ خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى ﴾ ارتفع ﴿ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ اعلم أنَّ دلائل الإلهيات وقعت في القرآن على نوعين :
أحدهما : أن يتمسَّك بالأظهر مترقياً إلى الأخفى، فالأخفى كما ذكره في سورة البقرة في قوله تعالى :﴿ يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] فجعل تغير أحوال الإنسان دليلاً على احتياجه إلى الخالق.
ثم استدل بتغير أحوال الآباءِ، والأمهاتِ؛ قال تعالى :﴿ والذين مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ].
ثم استدلَّ بأحوال الأرض؛ فقال تعالى :﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً ﴾ [ البقرة : ٢٢ ] لأن الأرض أقرب إلينا من السماء.
ثُمَّ استدلَّ بأحوال السماء بعد الأرض؛ فقال تعالى :﴿ والسماء بِنَآءً ﴾ [ البقرة : ٢٢ ].
ثم استدلَّ بالأحوال المتولدة من تركيب السماء، والأرض؛ فقال سبحانه :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢ ].
النوع الثاني : أن يستدل بالأشرف، فالأشرف نازلاً إلى [ الأدون فالأدون ] ؛ كما ذكر في هذه الآية، فاستدل على وجود الإله المختار بذكر الأجرام الفلكية العلوية، فقال :﴿ خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ وقد تقدم الكلام على الاستدلال بذلك أول الأنعام، ثم استدل ثانياً بخلق الإنسان، فقال تعالى :﴿ خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾.
واعلم أنَّ أشرف الأجسام بعد الأفلاكِ والكواكبِ هو الإنسانُ.
وعلمْ أنَّ الإنسان مركبٌ من بدنٍ ونفسٍ، فقوله تعالى :﴿ خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ ﴾ إشارةٌ إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه.
وقوله تعالى :﴿ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره، أمَّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاءِ بحسب المشاهدة؛ إلاَّ أنَّ بعض الأطباءِ يقول : إنه مختلف الأجزاءِ في الحقيقة؛ لأنَّ النطفة تتولد من فضلة الهضم.
الثالث : أنَّ الغذاء يحصل له : في المعدةِ هضم أولٌ، وفي الكبد هضمٌ ثانٍ، وفي العروق هضم ثالثٌ، وعند وضوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابعٌ.
ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاءِ الغذاء إلى العظمِ، وظهر فيه أثرٌ من [ الطبيعة ] العظيمة، وكذا يقول في اللحمِ والعصبِ والعروقِ، و غيرها.
ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشَّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء؛ وذلك هو النطفة، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع.
وإذا عُرف هذا، فالنطفةُ : إمَّا أن تكون جسماً متساوي الأجزاءِ في الطبيعةِ، والماهيةِ، أو مختلف الأجزاءِ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليدِ البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودمِ الطَّمثِ؛ لأنَّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار، والقوة الطبيعية إذَا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره.
وعلى هذا الحرف عوَّلوا في قولهم : البَسائطُ يجب أن يكون شكلها الكرة؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك؛ علمنا أنَّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة؛ بل فاعل مختار، وهو يخلق بالتَّدبير، والحكمة، والاختيار، وإن قلنا : إنَّ النطفة جسمٌ مركبٌ من أجزاء مختلفة في الطبيعةِ والماهيةِ، فنقول : بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فإنه يجب أن يكون تولد البدنِ منها تدبير فاعل مختار حكيم، وبيانه من وجهين :
الأول : أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة، وإذا كان كذلك؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوقُ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاءِ الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوانِ على هذا الترتيب المعيَّن أمراً دائماً؛ علمنا أنَّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصِّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار.