الوجه الثاني : أنَّ النطفة بتقدير أنَّها جسمٌ مركبٌ من أجسامٍ مختلفة الطبائع إلاَّ أنَّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحدٍ منها في نفسه جسماً بسيطاً.
وإذا كان كذلك، فلو كان المدبِّر لها قوة طبيعية لكان كل واحدٍ من تلك البسائطِ يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كراتٍ مضمومة بعضها إلى بعض.
وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنَّ مدبِّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك، لأنَّ تلك التأثيرات متشابهة؛ فعلمنا أنَّ مدبر أبدانِ الحيوانات فاعلٌ مختارٌ حكيمٌ.
قوله تعالى :﴿ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ متعلق ب « خَلَقَ » و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ.
والنُّطفَةُ : القطرة من الماءِ؛ نطَفَ رَأسهُ مَاءً، أي : قطر، وقيل : هي الماء الصافي، ويعبر بها عن ماءِ الرجل، ويكنى بها عن اللؤلؤةِ، ومنه : صَبِي منَطَّفٌ إذا كان في أذنه لؤلؤة، ويقال : ليلةٌ نطوفٌ إذا جاء فيها المطر، والنَّاطفُ : ما سال من المائعات يقال : نَطَفَ يَنطفُ، أي : سال فهو نَاطِف، وفلانٌ يُنْطَفُ بسُوءٍ.
قوله :﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ ﴾ عطف هذه الجملة على ما قبلها، فإن قيل : الفاءُ تدل على التعقيب، ولا سيَّما وقد وجد معها « إذا » التي تقتضي المفاجأة، وكونه خصيماً مبيناً لم يعقب خلقه من نطفةٍ، إنما توسَّطتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ.
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤولُ إليه، كقوله تعالى :﴿ أَعْصِرُ خَمْراً ﴾ [ يوسف : ٣٦ ].
والثاني : أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم.
وقيل : ثمَّ وسائط محذوفة.
والذي يظهر أن قوله « خَلقَ » عبارة عن إيجاده، وتربيته إلى أن يبلغ حدَّ هاتين الصفتين.
و « خَصِيمٌ » : فعيلٌ مثالُ مبالغةٍ من خَصِمَ بمعنى اخْتَصَمَ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم، كالخَليطِ والجَليسِ، ومعنى « خَصِيمٌ » جدولٌ بالبَاطلِ.

فصل


اعلم أنَّه - سبحانه وتعالى - إنَّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيراتٍ كثيرةٍ مذكورة في قوله :


الصفحة التالية
Icon