قوله « ومَنافِعُ » أراد النَّسْل، والدَّرَّ، والركوب، والحملَ، وغيرها، فعبر عن هذا الوصف بالمنفعة؛ لأنَّه الأعمُّ، والدر والنسل قد ينتفع به بالبيع بالنقودِ، وقد ينتفع به بأن تبدَّل بالثياب، وسائر الضَّرورياتِ، فعبَّر عن جملة الأقسامِ بلفظ المنافع ليعمَّ الكل.

فصل


الحيوانات قسمان :
منها ما ينتفع به الإنسان، ومنها ما لا يكون كذلك، والقسم المنتفع به [ أفضل ] من الثاني، والمنتفع به إمَّا أن ينتفع به الإنسان في ضروراته، مثل الأكلِ واللبسِ أو في غير ضروراته، والأول أشرف وهو الأنعام، فلهذا يدأ بذكره فقال :﴿ والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾ وهي عبارة عن الأزواج الثمانية، وهي الضَّأنُ والمعز والبقر والإبل.
قال الواحديُّ : تمَّ الكلام عند قوله :﴿ والأنعام خَلَقَهَا ﴾ ثم ابتدأ وقال :﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾.
قال صاحبُ النَّظم : أحسنُ الوجهين أن يكون الوقف عند قوله :« خَلَقَهَا » ؛ لأنه عطف عليه ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ﴾ والتقدير : لكم فيها دفءٌ ولكم فيها جمالٌ.
ولما ذكر الأنعام، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها، وهي إما ضرورية، أو غير ضرورية، فبدأ بذكر المنافع الضرورية؛ فقال :﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾ وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى، فقال سبحانه :﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ ﴾ [ النحل : ٨٠ ].
والمعنى : ملابسُ ولحفاءُ يستدفئون بها، ثم قال :« ومَنافِعُ » والمراد ما تقدم من نسلها ودرِّها.
ثم قال :﴿ وَمِنْهَا تَكُلُونَ ﴾، « مِنْ » ها هنا لابتداء الغاية، والتبعيض هنا ضعيفٌ.
قال الزمخشري :« فإن قلت : تقديم الظرف مؤذنٌ بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها، قلت : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس، وأمَّا غيرها من البط والدجاج ونحوها من الصَّيد، فكغير المعتد به؛ بل جارٍ مجرى التَّفكُّهِ ».
قال ابن الخطيب :« ويحتمل أن غالب أطعمتكم منها؛ لأنَّكم تحرثون بالبقر، والحب والثّمار التي تأكلونها، وتكتسبون بها، وأيضاً بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها، وألبانها، وجلودها، وتشترون بها جميع أطعمتكم ».
فإن قيل : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللَّبس، فلم أخَّر منفعة الأكْلِ في الذكر؟.
فالجواب : أنَّ الملبوس أكثر من المطعوم؛ فلهذا قدِّم عليه في الذِّكر فهذه المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام، وأمَّا المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام فأمورٌ :
الأول : قوله ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ﴾ كقوله ﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾.
و « حِينَ » منصوب بنفس « جمالٌ » أو بمحذوفٍ، على أنه صفة له، أو معمولٌ لما عمل في « فِيهَا » أو في « لَكُمْ ».
وقرأ عكرمة، والضحاك، والجحدري - رحمهم الله - :« حِيناً » بالتنوين؛ على أنَّ الجملة بعده صفة له، والعائد محذوف، أي : حيناً تريحون فيه وحيناً تسرحون فيه، كقوله :﴿ واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ] وقدِّمت الإراحة على [ السرح ] ؛ لأنَّ الأنعام فيها أجمل لملءِ بطونها وتحفُّل ضروعها، بخلاف التسريح؛ فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللَّبن ثم تتفرق وتنتشر.


الصفحة التالية
Icon