فالجواب : أنَّ عطف الجنس على النع وبالضدِّ مشهور وأيضاً : فلفظ الشجرِ يشعر بالاختلاط، يقال : تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم ببعض، وتشاجرتِ الرِّماح إذا اختلطت، وقال تعالى :﴿ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [ النساء : ٦٥ ]، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب، والكلأ؛ فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه.
وقيل المراد بالشجر ما له ساقٌ؛ لأنَّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وإطلاق الشجر على الكلأ مجازٌ.
قوله :﴿ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ هذه صفة أخرى ل « مَاءً »، والعامة على « تُسِيمُونَ » بضم التاء من أسام، أي :[ أرسلها ] لترعى.
وقرأ زيد بن علي بفتحها، فيحتمل أن يكون متعدياً، ويكون فعل وأفْعَل بمعنى، ويحتمل أن يكون لازماً على حذف مضافٍ، أي : تُسِيمُ مَواشِيكُمْ.
يقال : أسمت الماشية إذا خلَّيتها ترعى، وسامت هي تسُومُ سَوْماً، إذا رعتْ حيثُ شاءتَ فهي سَوام وسَائِمَة.
قال الزجاج - C- :« أخذ ذلك من السومةِ وهي العلامة؛ لأنَّها تؤثر في الأرض برعيها علاماتٍ ».
وقال غيره : لأنها تعلَّم الإرسال والمرعى، وتقدم الكلام في هذه المادة في آل عمران عند قوله تعالى :﴿ والخيل المسومة ﴾ [ الآية : ١٤ ].
قوله تعالى :﴿ يُنْبِتُ لَكُمْ ﴾ تحتمل هذه الجملة الاستئناف والتبعيَّة، كما في نظيرتها، ويقال : أنْبتَ الله الزَّرْعَ فهو منبُوت، وقياسه : مُنْبَت. وقيل : أنْبتَ قد يجيء لازماً، ك « نَبَتَ » ؛ وأنشد الفراء :[ الطويل ]

٣٣٠٥- رَأيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حولَ بُيوتِهِمْ قَطِيناً لهُمْ حتَّى إذَا أنْبتَ البَقْلُ
وأباه الأصمعيُّ؛ والبيت حجة عليه، وتأويله : ب « أنبت » البقل نفسه على المجاز بعيد جدًّا.
وقرأ أبو بكر « نُنْبِتُ » بنون العظمة، والزهري « تنَبِّتُ » بالتشديد، والظاهر أنَّهُ تضعيف التَّعدي، وقيل : بل للتَّكرير، وقرأ أبي :« تُنْبُتُ » بفتح الياء وضمِّ الباءِ. « الزَّرْعَ » وما بعده رفع بالفاعلية، وتقدم خلافُ القراء في رفع « الشَّمْس » وما بعدها ونصبها، وتوجيه ذلك في سورة الأعراف.

فصل


النبات قسمان :
أحدهما : لرعي الأنعام؛ وهو المراد من قوله « تُسِيمُونَ ».
والثاني : المخلوق لأكل الإنسانِ؛ وهو المراد من قوله :﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ﴾.
فإن قيل : إنه - تعالى - بدأ في هذه الآية بذكر مأكول [ الحيوان ] وأتبعه بذكر مأكولِ الإنسانِ، وفي ىية أخرى عكس الترتيب؛ فقال :﴿ كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُم ﴾ [ طه : ٥٤ ] فما الفائدة فيه؟.
فالجواب : أنَّ هذه الآية مبنيَّةٌ على مكارم الأخلاق؛ وهو أن يكون اهتمام الإنسانِ بمن يكون تحت يده، أكمل من اهتمامه بنفسه، وأمَّا الآية الأخرى، فمبنيةٌ على قوله - ﷺ - :« ابْدَأ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ ».

فصل


اعلم أنَّ الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء، والغذاء، إمَّا من الحيوانات، وإمَّا من النبات، والغذاء الحيوانيُّ أشرف من الغذاء النباتي؛ لأنَّ تولد أعضاءِ الإنسانِ من [ أكل ] أعضاء الحيوان أسهل من تولدها من غذاء النبات؛ لأنَّ المشابهة هناك أكمل وأتم، والغذاء الحيواني إنما يحصل من إسامةِ الحيواناتِ وتنميتها بالرعي؛ وهو الذي ذكره الله في الإسامةِ.


الصفحة التالية
Icon