قوله :« إلاَّ من اتَّخَذَ » هذا الاستثناء يترتب على عود الواو على ماذا؟ فإن قيل بأنها تعود على الخلق، أو على الفريقين المذكورين « أو على المتقين فقط ».
فالاستثناء حينئذ متصل، وفي محل المستثنى الوجهان المشهوران إما الرفع على البدا، وإما النصب على أصل الاستثناء. وإن قيل : إنه يعود على المجرمين فقط كان استثناء منقطعاً، وفيه حينئذ اللغتان المشهورتان : لغةُ الحجاز التزام النصب، ولغةُ تميم جوازه مع جواز البدل « كالمتصل ». وجعل الزمخشري هذا الاستثناء من الشفاعة على وجهي البدل وأصل الاستثناء نحو : ما رأيت أحداً إلا زَيْداً.
وقال بعضهم : إن المستثنى منه محذوف، والتقدير : لا يملكون الشفاعة لأحدٍ إلاَّ اتَّخذ عن الرحمن عهداً، فحذف المستثنى « منه للعلم » به، فهو كقول الأخرِ :

٣٦٢٧- نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشدقهِ ولَمْ يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سَيْفِ ومِئزَرا
أي : ولَمْ يَنْجُ بشيءٍ.
وجعل ابنُ عطية الاستثناء متصلاً، وإن عاد الضمير في « لا يَمْلِكُون » على المجرمين فقط على أن يراد بالمجرمين الكفرة والعصاة من المسلمين. قال أبو حيان : وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد. قال شهاب الدين : ولا بعد فيه، وكما استبعد إطلاق المجرمين على العصاة كذلك يستبعد غيره إطلاق المتقين على العصاة، بل إطلاق المجرم على العاصي أشهر من إطلاق المتقي عليه.

فصل


قال بعضهم : لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون.
وقال آخرون : لا يملك غيرهم أن يشفع لهم. وهذا أولى، أن الأول يجري مجرى إيضاح الواضح. وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة أهل الكبائر. لأنه قال عقيبه « إلاَّ من اتَّخذَ عندَ الرَّحمن عَهْداً »، والتقدير : لا يشفع الشافعون إلا لمن اتَّخذَ عند الرَّحمن عهداً، يعني للمؤمنين «، كقوله :﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ] فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو التوحيد، فوجب دخوله تحته، ويؤكده ما روى ابن مسعود أنه - عليه السلام- » قال لأأصحابه يوماً :« أيَعْجَزُ أحدكُمْ أن يتَّخذ عندَ كُلِّ صباح ومساء » عند الرَّحمن عهداً « قالوا : وكيف ذلك؟ قال :» يقُولُ عِنْدَ كُلِّ صباحٍ ومساء « : اللَّهُمَّ فاطرَ السَّمواتِ والأرضِ عالمِ الغَيْبِ والشَّهادة إنِّي أعْهَدُ إليكَ بأنِّي أشْهَدُ أنَّ لا إله إلاَّ أنتَ وحْدَكَ لا شرِيكَ لَكَ، وأنَّ مُحَدَّداً عبدُكَ ورسُولَك، فإنَّك إنْ تكلني إلى نفسي تُقرَّبِنْي من الشَّر، وتُباعدني من الخَيْرِ، وإنَّي لا أثقُ إلاَّ برحمتكَ، فاجْعَل لي عهداً تُوفنيه يَوْمَ القيامة إنَّك لا تُخْلِفُ الميعَاد. فإذا قال ذلِكَ طُبِعَ عليه بطابع وَوُضع تحت العرش، فإذا كان يومُ القيامةِ نادَى مُنَادٍ : أيْنَ الذين لهُم عِندَ الرَّحمن عهد؟ فيَدْخُلونَ الجنَّة ».


الصفحة التالية
Icon