فولدت امرأته في ليلة شاتية، وكانت ليلة الجمعة فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن، فقدح زنده فلم يورِهِ، فبينما هو في مزاولة ذلك إذ أبصر ناراً من بعيد على يسار الطريق من جانب الطور.
قال السُّدي : فظن أنها نارٌ من نيران الرعاة.
وقال آخرون : إنه عليه السلام رآها في شجرة وليس في القرآن ما يدل على ذلك. وقال بعضهم : الذي رآه لم يكن ناراً ( بل تخيله ناراً ) والصحيح أنه رأى ناراً ليكون صادقاً في خبره، إذا الكذب لا يجوز على الأنبياء. قيل : النار أربعة أقسام :
نارٌ تأكل ولا تشرب، وهي نار الدنيا. ونارٌ تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر لقوله تعالى :﴿ جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً ﴾ [ يس : ٨٠ ].
ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة. ونارٌ لا تأكل ولا تشرب، وهي نار موسى عليه السلام.
وقيل أيضاً : النار أربعة : أحدها : نارٌ لها نور بلا حرقة، وهي نار موسى عليه السلام.
ونارٌ لها حرقة بلا نور، وهي نار جهنم. ونارٌ لها حرقة ونور، وهي نار الدنيا. ونار لا حرقة لها ولا نور وهي نار الأشجار. فلما أبصر النار « قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا » يجوز أن يكون هذا الخطاب للمرأة وولدها والخادم.
ويجوز أن يكون للمرأة وحدها خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجمع تفخيماً، أي : أقيموا في مكانكم. « إنِّي آنَسْتُ نَاراً ». أي أبصرتُ ناراً، والإيناس : الإبصار وقيل : إبصار ما يُؤنَسُ بِهِ ولما وجد الإيناس -وكان منتفياً- حقيقة لهم أتى بكلمة « إنِّي » ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقَبَس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع، فقال :« لَعَلِّي » ولم يقطع فيقول : إنِّي آتيكُمْ، لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به، والنكتة فيه أن قوماً قالوا : كَذَبَ إبراهيمُ للمصلحة وهو محال، لأن موسى عليه السلام قبل نبوته احترز فلم يقل : إِنِّي آتِيكُمْ، بل قال « لَعَلِّي آتِيكُمْ ». والقَبَسُ : النارُ المقتبسةُ في رأس عودٍ أو فتيلةٍ أو غيرهما. « أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى » أي ما يهتدي به وهو اسم مصدر، فكأنه قال : أجِدُ على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة.
ومعنى الاستعلاء على النار « ( أنَّ أهلَ النارِ ) يستعلون المكان القريب منها، ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا مشرفين عليها، فكأنه قال : أُجِدُ على النارِ مَنْ يَدُلُّنِي. » فَلَمَّا أتَاهَا « أي النار، قال ابن عباس : رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها أطافت بها نار بيضاء تتّقد كأضوأ ما يكون فوقف متعجباً من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا النار تغير خضرتها، ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء النار.