وقد تقدمت هذه المسألة في الأنعام.
قوله :« فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ » هذا أمر معناه الخبر، ولكونه أمراً لفظاً جُزم جوابُه في قوله « يَأْخُذُه »، وإنما خرج بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطعُ الأفعال ولآكدها، قال الزمخشري : لما كانت مشيئةُ الله وإرادته أن يجري ماءُ اليَمِّ، ويلقى بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليَمَّ كأنَّه ذو تمييزٍ أمر بلك ليطيع الأمر، ويتمثل رسمه فقيل :﴿ فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل ﴾. و « بالسَّاحِلِ » يحتمل أن يتعلق بمحذوف على أن الباء للحال. أي : ملتبساً بالسَّاحل. وأن يتعلق ينفس الفعل على أن الباء ظرفية بمعنى ( في ) والقذفُ يستعمل بمعنى الإلقاء والوضع، ومنه قوله :﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب ﴾ [ الأحزاب : ٢٦ ] واليَمُّ البحر، والمراد به ههنا نيلُ مصرَ ( في قول الجميع ) واليَمُّ : اسم يقع على النهر والبحر العظيم.
قال الكسائي : والسَّاحِلُ فاعل بمعنى مَفْعُول، سمي بذلك لأن الماءَ يسحله أي : يغمره إلى أعره «.
فصل
روي أنها اتخذت تابوتاً.
قال مقاتل : إن الذي صنع التابوت حُزَيْقِيل مؤمن آل فرعون وجَعَلت في التابوت قطناً ملحوجاً، ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وشقوقه بالقير، ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينما فرعون جالس على رأس البركة مع امرأته آسيةَ إذا بتابوت يجيء به الماء، فأمر الغلمان والجواري بإخراجه، فأخرجوه، وفتحوا رأسَه، فإذا صبيٌّ من أصبح الناس وجهاً، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك، فذلك قوله :﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ قال ابن عباس : أَحّبَّه وحبَّبَهُ إلى خَلْقِه.
وقال عكرمة : ما رآه أحد إلا أحبه.
فإن قيل : قوله :﴿ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ﴾ ولم يكن موسى في ذلك الوقت معادياً له.
فالجواب : من وجهين :
الأول : كونُه كافراً عدواً لله، وكونه عدواً لموسى - عليه السلام-، فإنه بحيث أو ظهر له على حاله لقتله.
والثاني : عدواً بحيث يؤول أمره إلى عداوته.
قوله :» مِنِّي « فيه وجهان : قال الزمخشري :» مِنِّي « لا يخلو إما أن يتعلق ب » أَلْقَيْتُ « فيكون المعنى : على أني أحببتك، ومن أحبه الله أحبته القلوب.
وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة ل » مَحَبَّةٌ « أي : محبة حاصلة وواقعة مِني قد ركزتها أنا في القلوب، وزرعتها فيها، فلذلك أحبتك امرأة فرعون حتى قالت :﴿ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ ﴾ [ القصص : ٩ ]. روي أنه كان على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة، لا يكاد يصبر عنه من رآه، وهو كقوله - تعالى- :