قوله :﴿ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ﴾. قرأ العامة « تَقَرَّ » بفتح التاء والقاف وقرأت فرقة :« تَقِرَّ » بكسر القاف، وقد تقدم في سورة مريم أنهما لغتان.
وقرأ جناح بن حبيش « تُقَرَّ » بضم التاء وفتح القاف على البناء للمفعول « عَيْنُها » رفعاً لما لم يسم فاعله.
فإن قيل :( لو قال ) : كي لا تحزن وتقرَّ عينُها كان الكلام مفيداً لأنه لا يلزم من عدم حصول الحزن حصول السرور لها، فلما قال أولاً ﴿ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ﴾ كان قوله « وَلاَ تَحزَن » فضلاً، لأنه متى حصل السرور وجب زوالُ الغمِّ لا محالة.
فالجواب : المراد تقرَّ عينُها بسبب وصولك إليها، ويزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك. قوله :﴿ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم ﴾، وهذه المنّة الخامسة. قال ابن عباس : هو الرجل القبطي الذي قتله خطأ بأن ( وكزه ) حيث استغاثه الإسرائيلي إليه، فحصل له الغم من وجهين :
الأول : من عقاب الدنيا، وهو اقتصاص فرعون منه على ما حكى الله تعالى عنه ﴿ فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ ﴾ [ القصص : ١٨ ].
والثاني : من عقاب الله حيث قتله لا بأمر الله. فنجاه الله- تعالى- من الغمين، أما من فرعون فوفق له المهاجرة إلى مدين، وأما من عقاب الآخرة ( فلأن الله تعالى غفر له ذلك ). ( قال كعب الأحبار : كان عمره إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ).
قوله :« فُتُوناً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على فُعُول كالقُعُود والجُلُوس، إلا أنَّ فُعُولاً قليل في المتعدي ومنه الشُّكُور والكُفُور والثُّبُور واللُّزُوم قال تعالى :﴿ لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ﴾ [ الفرقان : ٦٢ ] وهذا على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر، كقوله تعالى :﴿ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً ﴾ [ النساء : ١٦٤ ].
والثاني : أنه جمع فِتْن أو فِتْنَة على ترك الاعتداء بتاء التأنيث كحُجُوزٍ وبُدُورٍ في حُجْرَةٍ وبَدْرَة، أي : فَتناكَ ضروباً من الفتن. عن ابن عباس أنه ولُِدَ في عام يُقْتَل فيه الولدان، وألقته أنه في البحر، وقَتَل البطيَّ، وأجَّرَ نفسه عشر سنين، وضلَّ عن الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة. ولما سأل سعيد بن جبير عن ذلك أجاب بما تقدم، وصار يقول عند كل واحدة : فهذه فتنة يا ابن جبير، قال معناه الزمخشري.
وقال غيره : بفُتُونٍ من الفِتَن أي المِحَن مختبر بها.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الفتون وقوعه في محنة خلصه الله منها، أولها أنَّ أمه حملت في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت، ثم مَنْعُه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم أَخَذُه بحليةٍ فرعونَ حتى همَّ بقتلهِ، ثمو تناولت الجملة بدل الجوهرة ثم قَتْلُه القبطيَّ، وخروجه إلى مدين خائفاً.


الصفحة التالية
Icon