فعلى هذا معنى : فتناك أخلصناك من تلك المِحَن كما يُفْتَن الذهب بالنار فيتخلص من كل خبث فيه.
فإن قيل : إنه تعالى عدَّد أنواع مِنَنِهِ على موسى في هذا المقام، فكيف يليق بهذا قوله :« وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً » ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : ما تقدم من أنَّ « فَتَنَّاكَ » بمعنى خلصناك تخليصاً.
والثاني : أن الفتنة تشديد المحنة يقال : فُتِن فلانٌ عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه. قال تعالى :﴿ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله ﴾ [ العنكبوت : ١٠ ]، وقال :﴿ أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٢ ] وقال :﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين ﴾ [ العنكبوت : ٣ ]، ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب عدَّه الله من جملة النِّعَم.
فإن قيل : هل يَصلح إطلاق الفَتَّان عليه سبحانه اشتقاقاً من قوله :« وفَتَنَّاكَ فُتُوناً » ؟
فالجواب : لا لأنه صفة ذمٍّ في العرب، وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي.
قوله :﴿ فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ﴾ والتقدير :« وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً » فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم وهي إمَّا عشراً وَثَمان لقوله تعالى :﴿ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ ﴾ [ القصص : ٢٧ ] وقال وهب : لَبِثَ مُوسَى عند شعيب عليهما السلام ثمانياً وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته.
ويرده قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل ( وَسَارَ بِأَهْلِهِ ﴾ [ القصص : ٢٩ ] الأجل المشروط عيله في تزويجه.
ومَدْيَن : بَلْدَةُ شُعَيْبٍ على ثَمَان مراحل من مصر.
قوله :﴿ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى ﴾ هذا الجار متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل « جِئْتَ » أي جئت موافقاً لما قُدِّر لك، كذا قدره أبو البقاء، وهو تفسير معنى، والتفسير الصناعي : ثم جئت مستقراً أو كائناً على مقدار معين، كقول الآخر :

٣٦٥٦- نَالَ الخِلاَفَةَ أَوْ جَاءَتْ عَلَى قَدَرٍ كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرٍ
ولا بد من حذف في الكلام، أي : على قدر أمر من الأمور.
وقال محمد بن كعب : جئتَ على القدر الذي قدرت أنك تجيء فيه وقال مقاتل : كان موعداً ( في تقدير الله.
وقال عبد الرحمن بن كيسان : كان على رأس أربعين سنة، وهو القدر الذي ) يوحي فيه إلى الأنبياء. وهذا قول أكثر المفسرين، أي على الوعد الذي وعده الله وقدَّر أنه يوحي إليه بالرسالة، وهو أربعون سنة.


الصفحة التالية
Icon