قوله :﴿ واصطنعتك لِنَفْسِي ﴾ ( أي اخترتُك واصطفيتُك افتعال من الصنع لوحيي ورسالتي. وأبدلت التاء طاء )، لأجل حرف الاستعلاء.
وهذا مجازٌ عن قرب منزلته، ودنوه من ربه، لأن أحداً لا يصطنع إلا من يختاره.
قال القفال : واصطنعتُكَ أصله من قولهم : اصطنع فلانٌ فلاناً إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال : هذا صنيعُ فلانٍ وجريحُ فلانٍ. وقوله :« لِنَفْسِي » أي : لأصرفك في أوامري لئلا تشتغل إلا بما أمرتك به، وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي، وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك.
وقال الزجاج : اخترُكَ لأمري، وجعلتك القائم بحجتي، والمخاطب بيني وبين خلقي : كأني الذي أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم.
قوله :﴿ اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا ﴾ لما قال :﴿ واصطنعتك لِنَفْسِي ﴾ عقبه بذكر ما له اصطنعته، وهو الإبلاغ والأداء، و « الياء » في « بِآيَاتِي » بمعنى ( مع )، لأنهما لو ذهبا إليه بدون آيةٍ معهما لم يلزمه الإيمان، وذلك من أقوى الدلائل على فساد التقليد.
قال ابن عباس : يعني الآيات التسع التي بعث الله بها موسى. وقيل : إنها العصا واليد، لأنهما اللذان جرى دكرهما في هذا الموضع، ولم يذكر أنه -عليه السلام- أوتي قبل مجيئه إلى فرعون، لا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين، قال تعالى حكاية عن فرعون ﴿ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٠٦- ١٠٨ ]، وقال :﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ [ القصص : ٣٢ ].
فإن قيل : كيف يطلق لفظ الجمع على الاثنين؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن العصا كانت آيات، انقلابُها حيواناً، ثم إنها كانت في أول الأمر صغيرة، لقوله تعالى :﴿ تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ﴾ [ النمل : ١٠، القصص : ٣١ ] ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى، ثم إنه كان عليه السلام يدخل في يده في فمها قلم تضره وهذه آية أخرى، ثم كانت تنقلب عصا وهذه آية أخرى، وكذلك اليد فإن بياضها آية، وشُعَاعَها آية أخرى، ثم زوالهما بعد ذلك آية أخرى، فدل ذلك على أنهما كانتا آيات كثيرة.
وثانيها : هَبْ أن العصا أمرٌ واحدٌ ولكن فيها آيات، لأن انقلابها حيةً يدل على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل حكيم، ويدل على نبوة موسى، ويدل على جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيواناً، فهذه آيات كثيرة، ولذلك قال :﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾ [ آل عمران : ٩٦ ]... إلى قوله... ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] فهاهنا أولى.
وثالثها : قال بعضهم : أقل الجمع اثنان.
وقيل : معنى قوله :« بِآيَاتِي » أمُدكُّما بآياتي، وأظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل من فرعون وقومه، والمعنى : فإن آياتي معكما كما يقال : اذهب فإن جندي معك أي : إنِّي أمدك بهم من احتجت.