﴿ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ [ الصافات : ١٠ ] قوله :« مَا غَشِيَهُمْ » فاعل « غَشِيَهُمْ » وهذا من باب الاختصار وجوامع الكلم أي : ما يقل لفظها ويكثر معناها، أي فَغَشِيَهُمْ مَا لا يعلم كنهه إلا الله تعالى وقراءة الأعمش « فَغَشَّاهُمْ » مضعَّفاً، وفي الفاعل حينئذ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه « مَا غَشَاهُمْ » كالقراءة قبله، أي غطَّاهم من اليَمِّ ما غطَّاهُم.
والثاني : هو ضمير الباري تعالى. أي : فَغَشَّاهُم الله.
والثالث : هو ضمير فرعون، لأنه السبب في إهلاكهم.
وعلى هذين الوجهين : ف « مَا غَشَّاهُمْ » في محل نصب مفعولاً ثانياً.

فصل


قيل : أمرَ فرعونُ جنوده أن يَتْبَعُوا موسى وقومه، وكان هو فيهم « فَغَشِيَهُمْ » أصابهم « مِنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ »، وهو الغرق.
وقيل :« غَشِيَهُمْ »، علاهم وسترهم ﴿ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ ﴾ يريد بعض ماء اليم لا كلّه.
وقيل : غَشِيَهُم من اليَمِّ ما غشي قوم موسى فغرقوا هم ونَجَا موسى وقومه.
قوله :﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى ﴾ أي بما أرشدهم، وهذا تكذيب لفرعون، وتهكم به في قوله :﴿ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد ﴾ [ غافر : ٢٩ ] احتج القاضي بقوله :﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى ﴾ وقال : لو كان الضلال من خلق الله لما جاز أن يقال :« وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ » بل وجب أن يقال :« اللهُ أَضَلَّهُمْ »، لأن الله ذمَّه بذلك، فكيف يكون خالقاً للكفر، لأنَّ مَنْ ذمَّ غيره بشيء لا بد وأنْ يكون المذموم هو الذي فعله وإلا استحق الذم.

فصل


قال ابن عبَّاس : لمَّا أمر تعالى موسى أن يقطعَ بقومه البحر، وكان بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحُلِيّ والدواب لعيد يخرجون إليه، فخرج بهم ليلاً. وكان يوسف عليه السلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر، فلم يعرفوا مكانها حتى دلتهم عجوز على موضع العظم فأخذوه، وقال موسى عليه السلام للعجوز : احتكمي. فقالت : أكون معك في الجنة. فلما خرجوا تَبِعَهُم فرعون، فلما انتهى موسى إلى البحر، ( قال : هنا أُمِرْتُ، فَأوْحَى الله إليه أن اضْرِبْ بِعَصَاكِ البَحْرَ )، فضربه فانفلق، فقال لهم موسى : ادخلوا فيه قالوا : كيف وهي رطبة؟ فدعا ربّه فهبت عليهم الصبا فجفت. فقالوا : نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينَهُم كوًى حتى يرى بعضُهم بعضاً، ثم دخلوا حتى جازوا، وأقبل فرعون إلى تلك الطرق، فقال له قومه : إنَّ موسى قد سَحَر البَحْرَ كما ترى، وكان على فرس حصان فأقبل جبريل عليه السلام ( على فرس أنْثَى في ثَلاثَةٍ وثلاثين من الملائكة، فصار جبريل عليه السلام بين يدي فرعون ). فأبصر الحصانُ الفرسَ فاقتحم بفرعون على أثرها، وصاحت الملائكة في الناس الحقُوا حتى إذا دخل آخرهم، وكان أولهم أن يخرج التقى البحر عليهم، فغرقوا، فرجع بنو إسرائيل حتى ينظروا إليهم، وقالوا : يا موسى ادْعُ اللهَ أنْ يخرجهم لنا ( حتى ننظر إليهم )، فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سِلاحِهم.


الصفحة التالية
Icon