والثاني : أنه منصوب بإضمار ( أَنْ ) في جواب النهي، وهو واضح.
فصل
اعلم أن الله تعالى لمَّا أنعم على قوم موسى -عليه السلام- بأنواع النعم ذكرهم، ولا شك أنَّ إزالة الضرر يجب تقديمه على إيصال المنفعة، وإيصال المنفعة الدينية أعظم من إيصال المنفعة الدنيوية، فلهذا بدأ تعالى بإزالة الضرر بقوله :﴿ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ ﴾، فإن فرعون كان يُنْزِل بهم أنواع الظلم، والإذلال، والأعمال الشاقة. ثم ذكر المنفعة الدينية وهي قوله :﴿ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن ﴾ وذلك أنه أنزل عليهم في ذلك الوقت كتاباً فيه بيان دينهم وشريعتهم، أو لأنهم حصل لهم شرف بسبب ذلك.
قال المفسرون : وليس للجبل يمينٌ ولا يسار بل المراد أنَّ طور سيناء عن يمين السالك من مصر إلى الشام. ثم ثلَّث بذكر المنفعة الدنيوية فقال :﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى ﴾ ﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ أمر إباحة.
ثم زجرهم عن العصيان فقال :﴿ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ ﴾ قال ابن عباس : لا يظلم بعضُكُم بعضاً فيأخذه مِنْ صَاحِبه. وقال مقاتل والضحاك : لا تظلموا فيه أنفسَكُم بأن تُجَاوِزُوا حدّ الإباحَة وقال الكلبي : لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي ولا تُعْرِضوا عن الشكر، ولا تعدِلوا عن الحلال إلى الحرام والمراد بالطَّيِّبات هاهنا اللذائذ، لأن المن والسَّلوى من لذائذ الأطعمة. وقال الكَلْبي ومقاتل : الطَّيِّبات الحلالً، وذلك لأن الله تعالى أنزله إليهم، ولم يمسه يدي الآدميين. روي أنهم كانوا يُصبِحون فيجدونه بين بيوتهم فيأخذون منه قدر حاجتهم في ذلك اليوم إلى الغد، ومن ادخر لأكثر من ذلك فسد، ومن أخذ منه قليلاً كفاه، أو كثيراً لم يفضل عنه، فيصنعون منه مثل الخبز وهو في غاية البياض والحلاوة، فإن كان آخر النهار غشيهم طيْرُ السَّلوى فينقصون منها بلا كلفة ما يكفيهم لعشائهم، وإذات كان الصيف ظلَّل عليهم الغمام يقيهم حر الشمس. ثم قال :﴿ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ﴾ أي يجب عليكم غضبي ﴿ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى ﴾ أي هَلك وقيل : شَقِي. وقيل : وقع في الهاوية : هوى يهوي هوياً إذا سقط من علو إلى سُفْلٍ.
ثم قال :﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ ﴾.
واعلم أنه تعالى وصف نفسه بكونه غافراً وغفَّاراً، وبأن له غفراناً ومغفرةَ، وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر. أما كون وصفه غافراً فقوله : وأما كونه غَفُوراً فقوله :﴿ وَرَبُّكَ ا ﴾ [ الكهف : ٥٨ ] ( وأما كونه غفَّاراً فقوله :﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ) لِّمَن تَابَ وَآمَنَ ﴾ [ طه : ٨٢ ] وأما الغفران فقوله :﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ].
وأما المغفرة فقوله :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ ﴾ [ الرعد : ٦ ].
وأما صيغة الماضي فقوله في حق داود :﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ﴾ [ ص : ٢٥ ].
وأما صيغة المستقبل فقوله :﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ النساء :[ ٤٨، ١١٦ ] وقوله :﴿ إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً ﴾ [ الزمر : ١٣ ] وقوله :﴿ لِّيَغْفِرَ لَكَ الله ﴾ [ الفتح : ٢ ] وأما لفظ الاستغفار فقوله :﴿ استغفروا رَبَّكُمْ ﴾ [ هود : ٣، ٥٢، ٩٠، نوح : ١٠ ]