فصل


لمَّا قالوا لهارون ﴿ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ ﴾ أي : مقيمين على عبادة العجل ﴿ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى ﴾ اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفاً الذين لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة، وكانوا يؤقصون حول العِجْل قال للسبعين الذين معه : هذا صوت الفتنة، فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله. وقال له :﴿ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا ﴾ أشركوا.
قوله :« إذْ » منصوب ب « مَنَعَكَ »، أي : أي شيء منعك وقت ضلالهم.
و « لاَ » فيها قولان :
أحدهما : أنَّها مزيدة، أي ما منعك من أن تتبعني.
والثاني : أنَّها دخلت حملاً على المعنى، إذ المعنى ما حملك على أن لا تتبعني، وما دَعَاك إلى أن لا تتبعني، ذكره عَلِيُّ بن عِيسَى.
وقد تقدم تحقيق هذين القولين في ( سورة الأعراف، والقراءة في )، « يَبْنَؤُمَّ ».

فصل


ومعنى تَتَّبِعني تتَّبع أمري ووصيَّتٍي، يعني هلاَّ قاتلتهم، وقد علمت أنِّي لو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم، وقيل :﴿ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ ﴾ أي : ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالهم فتكون مفارقتك إياهُم زَجْراً لهم عما أتوا ﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾.

فصل


تمسك الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه :
أحدها : أنَّ موسى -عليه السلام- إما أن يكون قد أمر هارون باتباعه أو موسى لهارون معصيةً وذنباً، لأن ملامة غير المجرم معصية.
وإن لم يتبعه كان هارون تاركاً للواجب فكان فاعلاً للمعصية، وإن قلنا : إن موسى ما أمره باتباعه كانت ملامته إيَّاه بترك الاتباع معصية، وعلى جميع التقديرات يلزم إسناد المعصية إما إلى موسى أو إلى هارون.
وثانيها : قول موسى ﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ استفهام على سبيل الإنكار، فوجب أن يكون هارون قد عصاه، وأن يكون ذلك العصيان منكراً، وإلا كان موسى كاذباً، وهو معصية، وإذا فعل هارون لك فقد فعل المعصية.
ثالثها : قوله :﴿ ياابنأم لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي ﴾ [ طه : ٩٤ ] وهذا معصية، لأن هارون -عليه السلام- قد فعل ما قدر عليه، فكان الأخذ بلحيته وبرأسه معصية، وإن فعل ذلك قبل تعرف الحال كان ذلك معصية.
ورابعها : أن هارون قال :﴿ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي ﴾ [ طه : ٩٤ ]، فإن كان الأخذ بلحيته ورأسه جائزاً كان قول هارون « لاَ تَأْخُذْ » منعاً له أن يفعله، فيكون ذلك القول معصية. وإن لم يكن ذلك الأخذ جائزاً كان موسى -عليه السلام- فاعلاً للمعصية.
والجواب عن الكل : أنَّ حاصَ هذه الوجوه تمسكٌ بظواهر قابلة للتأويل، ومعارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز. وإذا ثبتت هذه المقدمة ففي الجواب وجوه :
أحدهما : أنَّا وإن اختلفنا في جواز عصمة الأنبياء لكن اتفقنا على جواز ترك الأولى عليهم. وإذا كان كذلك فالفعل الذي يفعله أحدهما ويمنع منه الآخر، أعني : موسى وهارون -عليهما السلام- لعله كان أحدهما أولى، والآخر كان ترك الأولى، فلذلك فعله أحدهما وتركه الآخر.


الصفحة التالية
Icon