فإن قيل : هذا التأويل غير جائز، لأن كل واحد منهما كان جازماً فيما يأتي به فعلاً كان أو تركاً، وفعل المندوب وتركه لا يجزمونه قلنا : تقييد المطلق بالدليل غير ممتنع، فيحمل الجزم في الفعل والترك على أن المراد افعل ذلك أو اتركه إن كنت تريد الأصلح، وقد يترك ذلك الشرط إذا كان تواطؤهما على رعايته معلوماً متقرراً.
وثانيهما : أن موسى -عليه السلام- أقبل وهو غضبان على قومه فأخذ برأس أخيه وجرّه إليه كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك الغضب، فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه وأصابعه ويفتل لحيته، فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه، لأنه كان أخاه وشريكه، فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب، وأما قوله :﴿ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي ﴾ [ طه : ٩٤ ] فلا يمتنع أنه معاون له، ثم أخذ في شرح القصة فقال :﴿ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ ﴾ [ طه : ٩٤ ].
وثالثها : أنَّ نبي إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى، حتى إن هارون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى : أنت قتلته، فلما وعد الله موسى، وكتب له في الألواح من كل شيء، ثم رجع فرأى من قومه ما رأى، أخذ برأس أخيه ليدنيه فيتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هارون أن يَسْبِق إلى قلوبهم ما لا أصل له، فقال إشفاقاً على موسى :﴿ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي ﴾ [ طه : ٩٤ ]، لئلا يظن القوم ما لا يليق بك.
ورابعها : قال الزمخشري : كان موسى -عليه السلام- رجلاً حديداً مجبولاً على الحدة، والخشونة، والتصلب في كل شيء، شديد الغضب لله ولدينه فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلاً من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام أن ألقى الواح التوراة لما غلب عليه من الدهشة العظيمة غضباً لله وحميّة، وعنَّف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدو.
قال ابن الخطيب : وهذا الجواب ساقط، لأنه يقال : هَبْ أنه كان شديد الغضب، ولكن مع ذلك الغضب الشديد هل كان يبقى عاقلاً مكلفاً أم لا؟
فإن بقي عاقلاً فالأسئلة باقية بتمامها، أكثر ما في الباب أنك ذكرت أنه يغضب شديداً وذلك من جملة المعاصي. فإن قلتم : إنه في ذلك الغضب لم يبق عاقلاً ولا مكلفاً فهذا مما لا يرتضيه مسلم البتة، فهذه أجوبة من لم يجوِّز الصغائر، وأما من جوزها فالسؤال ساقط.
وجواب آخر : وهو أنَّ موسى -عليه السلام- لمَّا رجع إلى بني إسرائيل كان عالماً بانهم قد فُتِنُوا، وأن السامري قد أضلهم، والدليل عليه قوله تعالى لموسى ( « إِنَّا قَدْ فَتَنَّا ) قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ » وإذا كان كذلك فموسى -عليه السلام- إنما جاء وهو عالم بحالهم، فإنكاره على هارون لعلمه بحالهم قبل مجيئه إليهم لا لما أثبتوه في سؤالهم.
وقوله :﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ يدل على أن تارك المأمور به عاص، والعاصي مستحق للعقاب، لقوله :« وَمَنْ يَعْص اللهَ ( وَرَسُولَه فَإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّم » ) فمجموع الآيتين يدل على أن الأمر للوجوب.


الصفحة التالية
Icon