والجواب من وجهين :
الأول : أن غرضكم من إيراد هذه الشبه النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم كلفتمونا بنفي التكليف، وهذا متناقض.
والثاني : أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد، وهو أن التكاليف كلها تكليف ( بما لا يطاق ) فلا يجوز من الحكيم أن يوجهها على العباد، فيرجح حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال لله تعالى : لِمَ كلفت عبادك، إلا أنَّا قد بيَّنا أنه سبحانه ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾، فظهر بهذا أن قوله :﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾ أصل لقوله :﴿ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ فتأمل هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن. فإن قيل :﴿ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ متأكد بقوله :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الحجر : ٩٢ ] وبقوله :﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٤ ] إلا أَنَّهُ يناقضه قوله :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ].
فالجواب : أن يوم القيامة طويل وفيه مقامات، فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام دفعاً للتناقض.

فصل


قالت المعتزلة :( فيه وجوه :
أحدها ) : أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل، بل كان يذم بما من حقه الذم، كما يحمد بما من حقه الحمد.
وثانيها : أنه يجب أن يسأل عن المأمور به إذ لا فاعل سواء.
وثالثها : أنه لا يجوز أن يسألوا عن علمهم إذ لا عمل لهم.
ورابعها : أن علمهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنه من حيث إنه خلقه وأوجده فيهم.
وخامسها : أنه تعالى صرح في كثير من المواضع أنه يقبل حجة العباد لقوله :﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل ﴾ [ النساء : ١٦٥ ].
وهذا يقضي أن لهم عليه حجة قبل بعثة الرسل، وقال :﴿ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ﴾ [ طه : ١٣٤ ] ونظائر هذه الآيات كثيرة، وكلها تدل على ان حجة العبد متوجهة على الله تعالى.
والجواب هو المعارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه المتقدمة التي بينا فيها أنه يستحيل طلب عِلِّيَّة أفعال الله تعالى.

فصل


في تعلق هذه الآية بما قبلها، وهو أن كل من أثبت الله تعالى شريكاً ليس عمدته إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى، قالوا : رأينا في العالم خيراً وشراً، ولذة وألماً، وحياة وموتاً، وصحة وسقماً، وغنى وفقراً، وفاعل خير وفاعل شر، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيراً وشرّيراً معاً، فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلاً ( للخير والآخر للشر )، فرجع حاصل هذه القسمة إلى أن مدبر العالم لو كان واحداً فلم خصَّ هذا بالحياة والصحة والغنى، وخصَّ هذا بالموت والألم والفقر. فيرجع حاصلة إلى طلب اللمية. لا جرم أنه تعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك، لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يبتدأ بذكر الدليل المثبت للمطلوب، ثم يذكر بعده الجواب عن شبهة الخصم.


الصفحة التالية
Icon