قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا ﴾ الآيات. اعلم أنه تعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع، وعلى كونه منزهاً عن الشريك، وعلى التوحيد، فتكون كالتوكيد لما تقدم، لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم، ووجود إلهين يقتضي وقوع الفساد. وفيه رَدٌّ على عبدة الأوثان من حيث أن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات العظيمة، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع؟ فهذا وجه النظم. قرأ ابن كثير « أَلَمْ يَرَ » من غير واو، والباقون بالواو. ونظير حذف الواو وإثباتها هنا ما تقدم في البقرة وآل عمران في قوله :﴿ قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً ﴾ [ البقرة : ١١٦ ] ﴿ سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ]، وقد تقدم حكمه، وإدخال الواو يدل على العطف على آخر تقدمه. والرؤية هنا يجوز أن تكون قلبية، وأن تكون بصرية. ف « أَنَّ » وخبرها سادة مسد مفعولين عند الجمهور على الأول، ومسد واحد والثاني محذوف عند الأخفش. وسادة مسد واحد قط على الثاني. فإن قيل : إن كان المراد بالرؤية البصرية فمشكل، لأن القوم ما رأوهم كذلك ألبتة، ولقوله تعالى :﴿ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض ﴾ [ الكهف : ٥١ ]. وإن كان المراد بالرؤية العلم فمشكل، لأن الأجسام قابلة للفتق والرتق في أنفسها فالحكم عليها بالرتق أولاً وبالفتق ثانياً لا سبيل إليه إلا بالسمع والمناظرة مع الكفار المنكرين للرسالة، فكيف يجوز مثل هذا الاستدلال.
فالجواب : المراد من الرؤية العلم، وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه :
أحدها : أنا نثبت نبوة محمد - عليه السلام- بسائر المعجزات، قم نستدل بقوله، ثم نجعله دليلاً على حصول النظام في العالم، وانتفاء الفساد عنه، وذلك يؤكد الدلالة المذكورة في التوحيد.
وثانيها : أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق، والعقل يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصاً.
وثالثها : أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك، فإنه جاء في التوراة أن الله تعالى خلق جوهرة، ثم نظر إيها بعين إلهية، فصارت ماء، ثم خلق السموات والأرض منها، وفتق بينهما، وكان بين اليهود وعبدة الأوثان نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد - ﷺ -، فاحتج الله عليهم بهذه الحجة على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك.
قوله :« كَانَتَا » الضمير يعود على « السَّمواتِ والأَرضَ » بلفظ التثنية والمتقدم جمع وفي ذلك أوجه :
أحدها : ما ذكره الزمخشري فقال : وإنما قال « كَانَتَا » دون كُنَّ، لأن المراد جماعة السموات وجماعة الأرضين، ومنه قولهم : لقاحان سوداوان، أي : جماعتان، فعل في المضمر ما فعل في المظهر.