فالجواب : إنما أطلق عليه لفظ الجمع، لأن كل قطعة منها سماء، كما يقال : ثوب أخلاق، وبُرْمَة أَعْشَار. وعلى هذا التأويل فتحمل الرؤية على الإبصار. وقال أبو مسلم : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله :﴿ فَاطِرِ السماوات والأرض ﴾، وكقوله :﴿ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ ﴾ [ الأنبياء : ٥٦ ] فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق، وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق.
وتحقيقه أن العدم نفي محض، فليس فيه ذوات وأعيان متباينة بل كأنه أمر واحد متصل متشابه، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها من بعض، وينفصل بعضها عن بعض.
فبهذا الطريق يحسن جعل الرتق مجازاً عن العدم، والفتق عن الوجود.
وقيل : إن الليل سابق النهار لقوله :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار ﴾ [ يس : ٣٧ ] فكانت السموات والأرض مظلمة أولاً ففتقها الله بإظهار النهار المبصر. واعلم أن دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع ووحدانيته ظاهرة لأن أحداً لا يقدر على مثل ذلك. قوله :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ يجوز في « جَعَلَ » هذه أن يكون بمعنى « خَلَقَ » فيتعدى لواحد، وهو ﴿ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ و « من الماء » متعلق بالفعل قبله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه من « كُلَّ شَيْءٍ » لأنه في الأصل يجوز أن يكون وصفاً له فلما قدم عليه نصب على الحال. ومعنى خلقه من الماء : أحد شيئين : إما شدة احتياج كل حيوان للماء فلا يعيش بدونه، وإما لأنه مخلوق من النطفة التي تسمى ماء. ويجوز أن يكون ( جَعَلَ ) بمعنى ( صَيَّرَ ) فيتعدى رثنين ثانيهما الجار بمعنى أنا صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه. والعامة على خفض « حَيٍّ » صفة لشيء. وقرأ حميد بنصبه على أنه مفعول ثان ل « جعلنا » والظرف لغو، ويبعد على هذه القراءة أن يكون « جَعَلَ » بمعنى ( خلق )، وأن ينتصب « حياً » على الحال.
قال الزمخشري : و « مِنْ » في هذا نحو « مِنْ » في قوله عليه السلام « ما أنا مِنْ دَدٍ وَلاَ الدَّدُ مِنَّي »
فإن قيل : كيف قال : خلقنا من الماء كل حيوان، وقد قال :﴿ والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم ﴾ [ الحجر : ٢٧ ]، وقال عليه السلام :« إن الله تعالى خلق الملائكة من النور »، وقال في عيسى :﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِيِ ﴾ [ المائدة : ١١٠ ]، وقال في حق آدم :﴿ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] فالجواب : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة، فإن الجليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك.


الصفحة التالية
Icon