فصل


لما سمع بعض القوم قول إبراهيم -عليه السلام- ﴿ تالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ﴾ وسمعوا سبّه لآلهتهم غلب على ظنهم أنه الفاعل لذلك، فلذلك قالوا :﴿ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ﴾ أي : يعيبهم ويسبهم ﴿ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾، فهو الذي يظن أنه الذي صنع هذا.
فبلغ ذلك نمروذ الجبار، وأشراف قومه، فقالوا فيما بينهم ﴿ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس ﴾ قال نمروذ، أي : جيئوا به ظاهراً، أي بمرأى من الناس ﴿ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ عليه أنه الذي فعله. قال الحسن وقتادة والسدي : كرهوا أن يأخذوه بغير بينةٍ. وقال محمد بن إسحاق :﴿ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ أي : يحضرون عقابه فينزجروا عن الإقدام على مثله. وقال الكلبي ومقاتل : المراد مجموع الأمرين أي : يشهدون عليه عقابه.
قوله :﴿ على أَعْيُنِ ﴾ في محل نصب على الحال من الهاء في « بِهِ » أي : ائتوا به ظاهراً مكشوفاً بمرأى منهم ومنظر. قال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ « ما معنى الاستعلاء في :» عَلَى « ؟ قُلْتُ : هو وارد على طريق المثل، أي يثبت إتيانه على الأعين، ويتمكن ثبات الراكب على المركوب، وتمكنه منه.
قوله :﴿ أَأَنْتَ فَعَلْتَ ﴾. في »
ءَأَنْتَ « وجهان :
أحدهما : أنه فاعل بفعل مقدر يفسره الظاهر بعده، والتقدير : أفعلت هذا بآلهتنا فلمّا حذف الفعل انفصل الضمير.
والثاني : أنه مبتدأ والخبر بعد الجملة.
والفرق بين الوجهين من حيث اللفظ واضح، فإنَّ الجملة من قوله »
فَعَلْتَ « الملفوظ بها على الأول لا محل لها، لأنها مفسرة ومحلها الرفع على الثاني، ومن حيث المعنى أنّ الاستفهام إذا دخل على الفعل أشعر بأنَّ الشك إنما تعلق به ( هل وقع أم لا؟ من غير شك في فاعله. وإذا دخل على الاسم وقع الشك فيه ) هل هو الفاعل أم غيره؟ والفعل غير مشكوك في وقوعه، بل هو واقع فقط.
فإذا قلت : أَقَامَ زَيْدٌ؟ كان شكك في قيامه. وإذا قلت : أَزَيْدٌ قَامَ؟ وجعلته مبتدأ كان شكك في صدور الفعل منه أم من عمرو.
والوجه الأولى هو المختار عند النحاة، لأنَّ الفعل تقدم ما يطلبه، وهو أداة الاستفهام.
قوله :﴿ بَلْ فَعَلَهُ ﴾ هذا الإضراب عن جملة محذوفة تقديره : لم أفعله إنما الفاعل حقيقة الله تعالى، وإسناد الفعل إلى »
كَبِيرُهُمْ « من أبلغ التعاريض.
قوله :»
هَذَا « فيه ستة أوجه :
أحدها : أن يكونَ نعتاً ل »
كَبِيرُهُمْ «.
الثاني : أن يكون بدلاً من »
كَبِيرُهُمْ «.
الثالث : أن يكون خبراً ل »
كَبِيرُهُمْ « على أنَّ الكلام يتم عند قوله » بَلْ فَعَلَهُ « وفاعل الفعل محذوف. كذا نقله أبو البقاء، وقال : وهذا بعيد، لأنَّ حذف الفاعل لا يسوغ. قال شهاب الدين : وهذا القول يعزى للكسائي، وحينئذ لا يحسن الرد عيله بحذف الفاعل فإنه يجيز ذلك، ويلزمه، ويجعل التقدير : بل فعله من فعله ويجوز أن يكون أراد بالحذف الإضمار، لأنه لمّا لم يذكر الفاعل لفظاً سمى ذلك حذفاً.


الصفحة التالية
Icon