وإن لم يكن مكلفاً فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق. وأيضاً فيه دلالة على قدرة الله وعلى تنزيهه عمّا لا يجوز فيكون القول فيه كالقول في الجبال. وقدم الجبال على الطير، لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان.
ثم قال :« وَكُنَّا فَاعِلِينَ » أي : قادرين على أنْ نفعل وإنْ كان عجباً عندكم وقيل : نفعل ذلك بالأنبياء -عليهم السلام-.
الإنعام الثاني قوله :﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ ﴾ الجمهور على فتح اللاتم من « لَبُوسٍ » وهو الشيء المعد للبس قال الشاعر :
٣٧٣٠- أَلْبَسُ لكُلِّ حَالَةٍ لَبُؤْسَهَا | إِمَّا نَعِيْمَهَا وَإمَّا بُؤسَهَا |
وقرئ « لُبُوس » بضم اللام، وحينئذ إما أنْ يكون جمع لُبْس المصدر الواقع موقع المفعول، وإما أنْ لا يكون واقعاً موقعه، والأول أقرب. و « لَكُمْ » يجز أن يتعلق ب « عَلَّمْنَاه »، وأن يتعلق ب « صَنْعَةَ » قاله أبو البقاء، وفيه بُعْد. وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل « لَبُوس ». قال قتادة : أول من صنع الدروع وسردها وحلقها داود وإنما كانت صفائح.
قوله :« لِتُحْصِنَكُم ». هذه لام كي، وفي متعلقها أوجه :
أحدها : أن تتعلق ب « عَلَّمْنَاهُ »، وهذا ظاهر على القولين الآخرين وأما على القول الثالث فيشكل، وذلك أنه يلزم تعلق جر في جر متحدين لفظاً ومعنى. ويجاب عنه بأن يجعل بدلاً من « لَكُمْ » بإعادة العامل كقوله تعالى :﴿ لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ ﴾ [ الزخرف : ٣٣ ] وهو بدل اشتمال، وذلك أنَّ أنْ الناصبة للفعل المقدرة مؤولة وهي منصوبها بمصدر، وذلك المصدر بدل من ضمير المخاطب في « لَكُمْ » بدل اشتمال، والتقدير : وعلمناه صنعة لبوس لتحصنكم.
والثاني : أن تتعلق ب « صَنْعَةَ » على معنى أنه بدل من « لَكُم » كما تقدم تقريره وذلك على رأي أبي البقاء، فإنه علَّق « لَكُمْ » ب « صَنْعَةَ ».
والثالث : أنها تتعلق بالاستقرار الذي تعلق به « لَكُمْ » إذا جعلناه صفة لما قبله. وقرأ الحرميان والأخوان وأبو عمرو :« لِيُحْصِنَكُمْ » بالياء من تحت، والفاعل الله تعالى، وفيه التفات على هذا الوجه، إذ تقدمه ضمير المتكلم في قوله « وَعَلَّمْنَاهُ ». أو داود، أو التعليم، أو اللبوس. وقرأ حفص وابن عامر بالتاء من فوق، والفاعل الصنعة أو الدرع، وهي مؤنثة، أو اللبوس، لأنها يراد بها ما ليس، وهو الدرع، والدرع مؤنثة كما تقدم.