وهو تعسف. والمراد بقوله :﴿ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ بيت المقدس. قال الكلبي : كان سليمان -عليه السلام- وقومه يركبون عليها من إصطخر إلى الشام، وإلى حيث شاء، ثم يعود إلى منزله.
ثم قال :﴿ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾ وكنا بكل شيء عملناه عالمين بصحة التدبير فيه، علمنا أنما نعطي سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه. قوله :﴿ مَن يَغُوصُونَ ﴾ يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة وعلى كلا التقديرين فموضعهما إمَّا نصب نسقاً على الريح، أي : وسخرنا له من يغوصون، أو رفع على الابتداء والخبر في الجار قبله وجمع الضمير حملاً على معنى « مَنْ »، وحسن ذلك تقدم الجمع في قوله « الشَّيَاطِينَ » فلما ترشح جانب المعنى روعي، ونظيره قوله :

٣٧٣١- وَإنَّ من النِّسْوَانِ مَنْ هِي روضة تهيج الرياض قبلها وتصوح
راعى التأنيث لتقدم قوله : وإنَّ من النسوان. و « دُونَ ذَلِكَ » صفة ل « عَمَلاً ».

فصل


يحتمل أن يكون من يغوصون منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال، ويحتمل أنهم فرقة أخرى، ويكون الكل داخليتن في لفظة « مَنْ » والأول أقرب. وظاهر الآية أنه سخرهم لكنه قد روي أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين وهو الأقرب من وجهين :
أحدهما : إطلاق لفظ الشياطين.
والثاني : قوله :﴿ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴾ فإنَّ المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد، وإنما يجب ذلك في الكافر. ومعنى « يَغُوصُونَ » أي : يدخلون تحت الماء، فيخرجون له من قعر البحر الجواهر ﴿ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك ﴾ أي : دون الغوص، وهو ما ذكره تعالى في قوله :﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ﴾ [ سبأ : ١٣ ] الآية. ﴿ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴾ حتى لا يخرجوا من أمره.
وقيل : وكل بهم جمعاً من الملائكة وجمعاً من المؤمنين الجن. وقال ابن عباس : إنَّ سلطانه مقيم يفعل بهم ما يشاء. وفي كونهم محفوظين ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه تعالى كان يحفظهم لئلا يذهبوا.
وثانيها : قال الكلبي : كان يحفظهم من أن يهيجوا أحداً في زمانه.
وثالثها : قال الزجاج : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا، وكان دأبهم أن يعملوا بالنهار ثم يفسدونه بالليل.
روي أن سليمان كان إذا بعث شيطاناً مع إنسان ليعمل له عملاً قال له : إذا فرغ من عمله قبل الليل اشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل وكان من عادة الشياطين أنهم إذا فرغوا من العمل ولم يشتغلوا بعمل آخر خربوا ما عملوه وأفسدوه.

فصل


سأل الجبائي نفسه، وقال : كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم دقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل، وإنما يمكنهم الوسوسة؟ وأجاب بأنه -سبحانه- كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزة لسليمان، فلما مات سليمان -عليه السلام- ردهم إلى الخلقة الأولى، لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس ولو ادعى مثبت النبوة وجعله دلالة، لكان كمعجزات الرسل، فلذلك ردهم إلى خلقهم الأول.


الصفحة التالية
Icon