وروى الحسن قال : مكث أيوب بعد ما ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهراً، ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته رحمة، صبرت معه، وكانت تأتيه بطعام. فاجتمع جنوده من أقطار الأرض، وقالوا له : ما خبرك؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فلم أدع له مالاً ولا ولداً، ولم يزدد بذلك إلا صبراً وحمداً، ثم سلطت على جسده فتركته ملقى في كناسة ما يقربه إلا امرأته، وهو مع ذلك لا يفتر عن الذمر والحمد، فاستغثت بكم لتعينوني، فأشيروا علي. قالوا : أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال : من قبل امرأته. قالوا : فشأنك من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها، لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال : أصبتم. فانطلق حتى أتى امرأته، فتمثل لها في صورة رجل، فقال : أين بعلك يا أمة الله؟ فقالت : هو ذَا يَحُكُّ قُرُوحَهُ وتتردد الدواب في جسده. فلما سمعها طمع أن يكون ذلك جزعاً فوسوس إليها وذكرها ما كان لها من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه.
قال الحسن : فصرخت، فلما صرخت علم أنها قد جزعت، فاتاها بسخلة فقال : ليذبح هذا أيوب لغير الله فيبرأ، قال : فجاءت تصرخ إلى أيوب تقول : حتى متى يعذبك ربك، ألا يرحمك، أين المال، أين الولد، أين الماشية، أين الصديق، أين الحسن، أين جسمك الذي قد بلي وصار مثل الرماد وتردد فيك الدواب، اذبح هذه السخلة واسترح؟ قال أيوب -عليه السلام- : أتاك عدو الله ونفخ فيك فأجتبيه، أما تذكرين ما كنا فيه من المال والولد والصحة، من أعطانا ذلك؟ قالت : الله. قال : فكم متعنا به؟ قالت : ثمانين سنة. قال : فمنذ كم ابتلانا بهذا البلاء؟ قالت سبع سنين قال : ما أنصفت ربك ألاَّ صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة، لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير الله، وحرام عليّ ان أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني به، فطردها، فذهبت، فلما نظر أيوب في شأنه، وليس عنده طعام، ولا شراب، ولا صديق، وقد ذهبت امرأته، خَرَّ ساجداً، وقال :﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين ﴾ فقال : ارفع رأسك فقد استجبت لك ﴿ اركض بِرِجْلِكَ ﴾ [ ص : ٤٢ ] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها، فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت، ثم ضرب برجله مرة أخرى، فنبعت عين أخرى، فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلاَّ خرج، وقام صحيحاً، وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن ما كان، ثم كسي حبة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من الأهل والمال إلا وقد ضاعفه الله، حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب، فجعل يضمه بيده، فأوحى الله إليه : يا أيوب ألم أغنك؟ قال : بلى، ولكن من يشبع من نعمك، قال : فخرج حتى جلس مكان مشرف، ثم إن امرأته قالت : هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعاً وتأكله السباع، لأرجعن غليه فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة، ولا تلك الحال، وإذا الأمور قد تغيرت، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه، وتسأل عنه، فأرسل إيلها أيوب، ودعاها، فقال : ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت، وقالت : بعليط، قال أتعرفينه إذا رأتيه، قالت : وهل يخفى علي فتبسم وقال : أنا هو.