وأما ضعف الظاهر، فلاستيلاء ضعف الباطن عليه، وذلك ممَّا يزيدُ الدُّعاء تأكيداً؛ لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته.
وأما كونهُ غير مردُود الدُّعاءِ، فوجه توسله به من وجهين :
الأول : أنَّه إذا قبله أوَّلاً، فلو ردَّه ثانياً، لكان الردُّ محبطاً للإنعام الأول، والمنعم لا يسعى في إحباط إنعامه.
والثاني : أنَّ مخالفة العادةِ تشقُّ على النَّفس، فإذا تعوَّد الإنسانُ إجابة الدُّعاء، فلو ردَّ بعد ذلك، لكان ذلك في غاية المشقَّة، والجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشقَّ، فكأنَّ زكريَّا -عليه السلام- قال : إنك إن رددَتَّنِي بعدما عودتَّني القُبول مع نهايةِ ضعفي، كان ذلك بالغاً إلى النِّهاية القصوى في [ ألم ] القلب، فقال :﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾.
تقولُ العربُ : سعد فلانٌ بحاجته : إذا ظَفِر بها، وشَقِي بها : إذا خَابَ، ولم [ يَبْلُغْهَا ].
وأمَّا كون المطلُوب منتفعاً به في الدِّين، فهو قوله :﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي ﴾.
فصل في اختلافهم في المراد من قوله :﴿ خِفْتُ الموالي ﴾
قال ابن عباس والحسن : الموالي : الورثة وقد تقدم.
واختلفوا في خوفه من الموالي، فقيل : خافهم على إفساد الدِّين.
وقيل : خاف أن ينتهي أمرُه إليهم بعد موته في مالٍ، وغيره، مع أنَّه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام ببعضه.
وقيل : يحتمل أن يكون الله قد أعلمه أنَّه لم يبقَ من أنبياء إسرائيل نبيٌّ له أبٌ إلاَّ نبيٌّ واحدٌ، فخاف أن يكون ذلك الواحدُ من بَني عمِّه، إذا لم يكن له ولدٌ، فسأل الله أن يهب له ولداً، يكونُ هو ذلك النبيِّ، والظاهرُ يقتضي أن يكون خائفاً في أمر يهتمُّ بمثله الأنبياء ولا يمتنع أن يكون زكريَّا كان إليه مع النبوة الربانيَّة من جهة الملك؛ فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما.
وقوله :« خِفْتُ » خرج على لفظ أصل الماضي، لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً؛ كقول الرجل : قد خفتُ أن يكون كذا، أي :« أنَا خَائِفٌ » لا يريدُ أنه قد زال الخوف عنه.
قوله :﴿ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً ﴾ أي : أنَّها عاقرٌ في الحال؛ لأنَّ العاقر لا يجوزُ [ أن تحبل في العادة ]، ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلامٌ بتقادُمِ العهد في ذلكَ، والغرضُ من هذا بيانُ استبعاد حصول الولدِ، فكان إيرادهُ بلفظ الماضِي أقوى، وأيضاً : فقد يوضعُ الماضي، أي : مكان المستقبل، وبالعكس؛ قال الله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين ﴾ [ المائدة : ١١٦ ].
وقوله :﴿ مِن وَرَآئِي ﴾ قال أبو عبيدة : من قُدَّامي، وبين يديَّ.
وقال آخرون : بعد موتي.
فإن قيل : كيف علم حالهم من بعده، وكيف علم أنَّهُمْ يقون بعده، فضلاً عن أن يخاف شرَّهم؟.