قال سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل :« الزَّبُور » جميع الكتب المنزلة، و « الذِّكْر » أم الكتاب الذي عنده، والمعنى من بعد ما كتب ذكره في اللوح المحفوظ. وقال ابن عباس والضحاك : الزبور : التوراة، واذلكر : الكتب المنزلة من بعد التوراة. وقال قتادة والشعبي : الزبور والذكر : التوراة. وقيل : الزبور : زبور داود، والذكر : القرآن، و « بَعْدِ » بمعنى قبل كقوله :﴿ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ ﴾ [ الكهف : ٧٩ ] أي : أمامهم. ﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣٠ ] اي : قبله. وقيل : الزبور : زبور داود، والذكر هو ما روي أنه -عليه السلام- قال :« كان الله ولم يكن معه شيء ثم خلق الذكر » قوله :﴿ مِن بَعْدِ الذكر ﴾ يجوز أن يتعلق بنفس « الزَّبُور » لأنه بمعنى المزبور، أي : المكتوب، أي : المزبور من بعد. ومفعول « كَتَبْنَا » « أنَّ » وما في حيزها، أي : كتبنا وراثة الصالحين للأرض، اي : حكمنا به قوله :« أنَّ الأَرْضَ » يعني أرض الجنة ﴿ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون ﴾ قال مجاهد : يعني أمة محمد - ﷺ - ويدل عليه قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض ﴾ [ الزمر : ٧٤ ] وقال ابن عباس : أراد أراضي الكفار يفتحها المسلمون، وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين.
وقيل : أراد الأرض المقدسة يرثها الصالحون لقوله تعالى :﴿ وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ].
﴿ إِنَّ فِي هذا ﴾ أي : في هذا القرآن يعني ما فيه من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة « لَبَلاَغَاً » وصولاً إلى البغية، فمن اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب. وقيل :« لَبَلاَغَاً » أي : كفاية : والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر. ﴿ لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴾ أي : مؤمنين. وقال ابن عباس : عالمين. وقال كعب الأحبار : هم أمة محمد - ﷺ - أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان.
وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً ﴾ يجوز أن ينتصب « رَحْمَةً » مفعولاً له، أي : لأجل الرحمة، ويجوز أن ينتصب على الحال مبالغة في أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف أي : ذا رحمة، أو بمعنى راحم. وفي الحديث :« يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة ».
قوله :« لِلْعَالَمِينَ » يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل « رَحْمَةً » أي : كائنة للعالمين. ويجوز أن يتعلق ب « أَرْسَلْنَاكَ » عند مَنْ يرى تعلق ما بعد قبلها جائز، أو بمحذوف عند مَنْ لا يرى ذلك. هذا إذا لم يفرغ الفعل لما بعدها أما إذا فرغ فيجوز نحو : ما مررت إلا بزيد، كذا قاله أبو حيان هنا. وفيه نظر من حيث إن هذا أيضاً مفرغ، لأنّ المفرغ عبارة عما افتقر ما بعد إلا لما قبلها على جهة المعمولية له.