فإن قيل : كيف قال :﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب ﴾ والخير أيضاً فِتْنَةٌ، لأنه امتحان. قال تعالى :﴿ وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ].
فالجواب : مثل هذا كثيرٌ في اللغة، لأن النعمة بلاء وابتلاء قال تعالى ﴿ فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ﴾ [ الفجر : ١٥ ] ولكن إنما يطابق اسم البلاء على ما يثقل على الطبع، والمنافق ليس عنده الخير إلا الخير الدنيوي، وليس عنده الشر إلا الشر الدنيوي، لأنه لا دين له؛ فلذلك وردت الآية على ما يعتقده. فإن قيل : إذا كانت الآية في المنافق فما معنى قوله ﴿ انقلب على وَجْهِهِ ﴾ وهو في الحقيقة لم يسلم حتى ينقلب.
فالجواب أنه أظهر بلسانه خلاف ما كان أظهره، فصار يذم الدين عند الشدة وكان من قبل يمدحه وذلك انقلاب على الحقيقة. فإن قيل : مقابل الخير هو الشر فلما قال ﴿ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ ﴾ كان يجب أن يقول : وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ.
فالجواب : لما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى : وإن أصابه شرٌّ بل وصفه بما لا يفيد فيه القبح.
قوله :﴿ خَسِرَ الدنيا والآخرة ﴾ قرأ العامة « خسر » فعلاً ماضياً، وهو يحتمل ثلاثة أوجه :
الاستئناف، والحالية من فاعل « انْقَلَبَ »، ولا حاجة إلى إضمار ( قد ) على الصحيح.
والبدلية من قوله « انقلب » كما أبدل المضارع من مثله في قوله ﴿ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ ﴾ [ الفرقان : ٦٨ - ٦٩ ].
وقرأ مجاهد والأعرج وابن محيصن والجحدري في آخرين « خَاسِر » بصيغة اسم الفاعل منصوب على الحال، وهو توكيد كون الماضي في قراءة العامة حالاً وقرئ برفعه، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون فاعلاً ب « انقلب »، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر، أي : انقلب خاسر الدنيا والآخرة، والأصل : انقلب هو.
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو خاسر.
وهذه القراءة تؤيد الاستئناف في قراءة المضي على التخريج الثاني. وحق من قرأ « خاسر » رفعاً ونصباً أن يجر « الآخرة » لعطفها على « الدنيا » المجرورة بالإضافة. ويجوز أن يبقى النصب فيها، إذ يجوز أن تكون الدنيا منصوبة، وإنما حذف التنوين من « خاسر » لالتقاء الساكنين نحو قوله :
٣٧٥٠- وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلا... فصل
معنى خسرانه الدنيا هو أن يخسر العز والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء، ولا يبقى ماله ودمه مصوناً، وأما خسران الآخرة فيفوته الثواب الدائم، ويحصل له العقاب الدائم، و ﴿ ذلك هُوَ الخسران المبين ﴾.
قوله :﴿ يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ ﴾ إن عصاه ولم يعبده، ﴿ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ﴾ إن أطاعه وعبده، و ﴿ ذلك هُوَ الضلال البعيد ﴾ عن الحق والرشد وهذه الآية تدل على أن الآية الأولى لم ترد في اليهود؛ لأنهم ليس ممن يدعو من دون الله الأصنام.


الصفحة التالية
Icon