وقال علي - رضي الله عنه - أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله. وقال عكرمة : هما الجنة والنار. قالت النار : خلقني الله لعقوبته، وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته، فقص الله على محمد خبرهما. والأقرب هو الأول؛ لأن السبب وإن كان خاصاً فالواجب حمل الكلام على ظاهره.
وقوله :« هَذَانِ » كالإشارة إلى ما تقدم ذكره، وهم الأديان الستة المذكورون في قوله :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة ﴾ [ الحج : ١٧ ].
وأيضاً ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب، فوجب رجوع ذلك إليهما، فمن خص به مشركي العرب واليهود من حيث قالوا في نبيهم وكتابهم ما حكينا فقد أخطأ، وهذا هو الذي يدل على أن قوله :﴿ إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ﴾ [ الحج : ١٧ ] أراد به الحكم، لأن ذلك التخاصم يقتضي أن الواقع بعده حكماً. فبين تعالى حكمه في الكفار، وذكر من أحوالهم ثلاثة أمور :
أحدها : قوله :﴿ فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ ﴾، وهذه الجملة تفصيل وبيان لفصل الخصومة المعني بقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ﴾ [ الحج : ١٧ ] قاله الزمخشري.
وعلى هذا فيكون « هَذَانِ خَصْمَانِ » معترضاً، والجملة من « اخْتَصَمُوا » حالية وليست مؤكدة لأنها أخص من مطلق الخصومة المفهومة من « خَصْمَان » وقرأ الزعفراني في اختياره « قُطِعَتْ » مخفف الطاء، والقراءة المشهورة تفيد التكثير وهذه تحتمله. والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله ﴿ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ [ الأعراف : ٤١ ]، وقال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب. وقال بعضهم : يلبس أهل النار مقطعات من النار.
قوله :« يُصَبُّ » هذه الجملة تحتمل أن تكون خبراً ثانياً للموصول، وأن تكون حالاً من الضمير في « لَهُمْ »، وأن تكون مستأنفة. والحميم الماء الحار الذي انتهت حرارته، قال ابن عباس : لو قطرت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها.
قوله :« يُصْهَر » جملة حالية من الحميم، والصهر الإذابة، يقال : صَهَرْتُ الشحم، أي : أذبته، والصهارة الألية المذابة، وصهرته الشمس : أذابته بحرارتها، قال :
٣٧٥٣- تَصْهَرُه الشَّمْسُ وَلاَ يَنْصَهِر... وسمي الصِّهْرُ صِهْراً لامتزاجه بأصهاره تخيلاً لشدة المخالطة. وقرأ الحسن في آخرين « يُصَهِّر » بفتح الصاد وتشديد الهاء مبالغة وتكثيراً لذلك، والمعنى : أن الحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم يذيب ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء.
قوله :« والجُلُود » فيه وجهان :
أظهرهما : عطفه على « ما » الموصولة، أي : يذيب الذي في بطونهم من الأمعاء، ويذاب أيضاً الجلود، أي يذاب ظاهرهم وباطنهم.
والثاني : أنه مرفوع بفعل مقدر أي : يحرق الجلود.
قالوا : لأن الجلد لا يذاب إنما ينقبض وينكمش إذا صلي بالنار، وهو في التقدير كقوله :