وقرأ طلحة « سَبِّحُوه » بهاءِ الكناية، وعنه أيضاً :« سَبِّحُنَّ » بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكِّداً بالثقيلة، وهو كقوله :﴿ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ﴾ [ هود : ٨ ]، وقد تقدَّم تصريفه.
قوله تعالى :﴿ فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب ﴾، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه؛ أن يفتح لهم الباب، فيدخلون ويصلون؛ إذ خرج عليهم زكريا متغيِّراً لونه، فانكروه، فقالوا : ما لك يا زكريا ﴿ فأوحى إِلَيْهِمْ ﴾.
قال مجاهدٌ : كتب لهم الأرض، ﴿ أَن سَبِّحُواْ ﴾، أي صلوا لله، ﴿ بُكْرَةً ﴾، غدوة، ﴿ وَعَشِيّاً ﴾، معنا أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشياً، فيأمرهم بالصلاة، فلما كان وقتُ حمل امرأته، ومنع الكلام خرج إليهم، فأمرهم بالصلاة إشارة.
قوله تعالى :﴿ يايحيى ﴾، قيل : فيه حذف معناه : وهبنا له يحيى، وقلنا له : يا يحيى، ﴿ خُذِ الكتاب ﴾، يعني التوراة، وقيل يحتمل أن يكون كتابتً خصَّ الله به يحيى، كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك، والأولى أولى؛ لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى، ولا معهود إلا التوراة.
وقوله ﴿ يايحيى خُذِ الكتاب ﴾ يدلُّ على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك، فحذف ذكره؛ لدلالة الكلام عليه.
قوله :« بقُوَّة » حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي : ملتبساً أنت، أو ملتبساً هو بقوَّة؛ وليس المراد بالقوة القدرة على الأخذ؛ لأن ذلك معلوم لكلَّ أحد، فيجب حمله على معنى يفيد المدح، وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة، وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمُور به، والإحجام عن المنهيِّ عنه.
قوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً ﴾.
قال ابن عبَّاس : الحكم : النُّبوة « صَبِيًّا » ؛ وهوابن ثلاث سنين وقيل : الحكمُ فهم الكتاب، فقرأ التوراة وهو صغيرٌ.
وقيل : هوالعَقْل، وهو قولُ مُعَمَّر.
وروي أنه قال : ما للَّعبِ خُلِقْنا.
والأوَّل أولى؛ لأنَّ الله تعالى أحكم عقلهُ في صباه، وأوحى إليه، فإنَّ الله تعالى بعث عيسى ويحيى -عليهما الصلاة والسلام- وهما صبيَّانِ، لا كما بعض موسى ومحمَّداً-عليهما الصلاة والسلام- وقد بلغا الأشُدَّ.
فإن قيل : كيف يعقلُ حصولُ العقل والفطنة والنُّبُوَّة حال الصِّبَا.
فالجوابُ : هذا السَّائِلُ إمَّا أن يمنع خرق العاداتِ، أو لا يمنع منه، فإن منع منه، فقد سدَّ باب النبوات؛ لأنَّ الأمر فيها على المعجزات، ولا معنى لها إلا خرق العاداتِ، وإن لم يمنع منه، فقد زال هذا الاستبعادُ؛ فإنَّه ليس استبعاد صيرورةِ الصَّبيِّ عاقلاً أشدَّ من استبعاد انشقاقِ القمر، وانفلاق البحر، و « صبيًّا » : حال من « هاء » آتيناه.


الصفحة التالية
Icon