قوله تعالى :﴿ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ ﴾ لما عدد نعمه وأنه لرؤوف رحيم بعباده، وإن كان منهم من يكفر ولا يشكر، أتبعه بذكر نعمه بما كلَّف، فقال :﴿ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً ﴾. وحذف الواو من قوله :« لِكُلِّ أُمَّةٍ » لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فحذف العاطف.
قال الزمخشري : لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفاً.
قوله :« هم ناسكوه » هذه الجملة صفة ل « مَنْسَكاً ». وقد تقدم أنه يقرأ بالفتح والكسر، وتقدم الخلاف فيه هل هو مصدر أو مكان. وقال ابن عطية :« نَاسِكُوه » يعطي أن المنسك المصدر، ولو كان مكاناً لقال : ناسكون فيه. يعني أن الفعل لا يتعدى إلى ضمير الظرف إلا بواسطة ( في ). وما قاله غير لازم، لأنه قد يتسع في الظرف فيجري مجرى المفعول فيصل الفعل إلى ضميره بنفسه، وكذا ما عمل عمل الفعل.
ومن الاتساع في ظرف الزمان قوله :
٣٧٧٧- وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِراً | قَلِيْلٍ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نَوَافِلُه |
٣٧٧٨- وَمَشْرَبٍ َشْرَبُه وشيلٍ | لاَ آجِنُ المَاءِ وَلاَ وَبِيْلُ |
فصل
روي عن ابن عباس : المَنْسَك شريعة عاملون بها، ويؤيده قوله تعالى :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ [ المائدة : ٤٨ ]. وروي عنه أنه قال : عيداً يذبحون فيه. وقال مجاهد وقتادة : قربان يذبحون. وقيل : موضع عبادة. وقيل : مألفاً يألفونه والأول أولى لأن المنسك مأخوذ من النسك وهو العبادة، وإذا وقع الاسم على عبادة فلا وجه للتخصيص.
فإن قيل : هلا حملتموه على الذبح، لأن المنسك في العرف لا يفهم منه إلا الذبح وهلا حملتموه على موضع العبادة وعلى وقتها؟
فالجواب عن الأول : لا نسلم أن المنسك في العرف مخصوص بالذبح، لأن سائر أفعال الحج تسمى مناسك قال عليه السلام :« خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم ».
وعن الثاني : أن قوله :« هُمْ نَاسِكُوه » أليق بالعبادة منه بالوقت والمكان. « فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ » قرأ الجمهور بتشديد النون، وقرئ بالنون الخفيفة وقرأ أبو مجلز « فَلاَ يَنْزِعُنَّكَ » من نَزَعتهُ من كذا أي قلعته منه. وقال الزجاج : هو من نَازعتُه فَنَزَعْتُه أَنْزِعُه أي : غلبته في المنازعة. ومجيء هذه الآية كقوله تعالى :﴿ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا ﴾ [ طه : ١٦ ] وقولهم : لا أَرَيَّنَكَ ههنا.
فصل
معنى الكلام على قراءة أبي مجلز : أي اثبت في دينك ثباتاً لا يطمعون أن يخدعوك ليزيلوك عنه وعلى قراءة :« يُنَازِعُنَّكَ » فيه قولان :
الأول : قال الزجاج : إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول : لا يضاربك فلان أي : لا تضاربه.