﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] وقوله :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] وقوله :« وزَكَاةً » أي : شفقةً، ليست داعيةً إلى الإخلال بالواجب؛ لأنَّ الرأفة واللِّين ربَّما أورثا ترك الواجب؛ ألا ترى إلى قوله :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ [ النور : ٢ ] وقال :﴿ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ [ التوبة : ١٢٣ ] وقال :﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاائم ﴾ [ المائدة : ٥٤ ].
والمعنى : أنَّا جمعنا له التعطُّف على عباد الله، مع الطَّهارة عن الإخلال بالواجبات، ويحتمل أنَّا آتيناه التعطُّف على الخلق، والطَّهارة [ عن المعاصي ]، فلم يَعْص، ولم يَهُمَّ بمعصية.
الثاني : قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ :﴿ وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا ﴾ : تعظيماً من لدنا.
والمعنى : آتيناهُ الحكم صبيًّا؛ تعظيماً إذ جعلناه نبيًّا وهو صبيٌّ، ولا تعظيم أكثر من هذا؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ أنَّ ورقة بن نوفل مرَّ على بلالٍ، وهو يعذب، قد ألصقَ ظهرهُ برمضاء البطحاء، وهو يقول : أحدٌ، أحدٌ، فقال : والذي نفسي بيده، لئنْ قتلْتُمُوه، لاتَّخذنَّهُ حناناً، أي : مُعَظَّماً.
قوله :« مِنْ لَدُنَّا » صفةٌ له.
قوله :« وَزَكاةً ». قال ابن عباس : هي الطَّاعة، والإخلاص.
وقال قتادةُ والضحاك : هو العملُ الصَّالح.
والمعنى : آتيناهُ رحمةً من عندنا، وتحنُّناً على العبادِ؛ ليدعوهم إلى طاعة ربِّهم، وعملاً صالحاً في إخلاص.
وقال الكلبيُّ : صدقة تصدَّق الله بها على أبويه، وقيل : زكَّيناه بحُسْن الثَّناء، أي كما يزكِّي الشهودُ الإنسان. وهذه الآيةُ تدلُّ على أن فعل العبد خلقٌ لله تعالى لأنه جعل طهارتهُ وزكاتهُ من الله تعالى، وحملهُ على الألطاف بعيدٌ؛ لأنَّه عدولٌ عن الظَّاهرِ.
قوله :﴿ وَكَانَ تَقِيّاً ﴾ مُخْلِصاً مُطِيعاً، والتَّقيُّ : هو الذي يتقي ما نهى الله عنه [ فيجتنبه ]، ويتقي مخالفة أمر الله، فلا يهمله، وأولى النَّاس بهذا الوصف من لم يعْصِ الله، ولا همَّ بمعصيةٍ، وكان يحيى -E- كذلك.
فإن قيل : ما معنى قوله ﴿ وَكَانَ تَقِيّاً ﴾ وهذا حين ابتداء تكليفه.
فالجوابُ : إنَّما خاطب الله تعالى الرسُول بذلك وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله تعالى عليه.
قوله :« وبَرًّا » : يجوز أن يكون نسقاً على خبر « كان » أي : كان تقيًّا برًّا. ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدَّر، أي : وجعلناه برًّا، وقرأ الحسن « بِرًّا » بكسر الباء في الموضعين، وتأويله واضحٌ، كقوله :﴿ ولكن البر مَنْ آمَنَ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ] وتقدَّم تأويله، و « بِوالِدَيْهَ » متعلقٌ ب « بَرًّا ».
و « عَصِيًّا » يجوز أن يكون وزنه « فَعُولاً » والأصل :« عَصُويٌ » ففعل فيه ما يفعل في نظائره، و « فَعُولٌ » للمبالغة ك « صَبُور » ويجوز أن يكون وزنه فعيلاً، وهو للمبالغة أيضاً.
فصل في معنى الآية
قوله :﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ﴾ أي : بارًّا لطيفاً بهما محسناً إليهما، « ولمْ يكُن جبَّاراً عصيًّا ».