والثاني : أنها لبيان الجنس.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين « مِنْ » و « مِنْ » ؟ قلت : الأولى للابتداء، والثانية للبيان كقوله :« مِنَ الأَوْثَانِ ». قال أبو حيان : ولا تكون للبيان إلا إذا قلنا : إن السلالة هي الطين أما إذا قلنا : إنه من انسل من الطين ف « مِنْ » لابتداء الغاية وفيما تتعلق به « مِنْ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها تتعلق بمحذوف إذ هي صفة ل « سُلاَلَة ».
الثاني : أنها تتعلق بنفس « سُلاَلَة » لأنها بمعنى مسلولة.
الثالث : أنها تتعلق ب « خَلَقْنَا »، لأنها بدل من الأولى إذا قلنا : إنّ السلالة هي نفس الطين. قوله :﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً ﴾ في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود للإنسان، فإن أريد غير آدم فواضح، ويكون خلقه من سلالة الطين خلق أصله، وهو آدم ( فيكون على حذف مضاف وإن كان المراد به آدم، فيكون الضمير عائداً على نسله، أي : جعلنا نسله )، فهو على حذف مضاف أيضاً، ويؤيده قوله :﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾ [ السجدة : ٧ - ٨ ].
أو عاد الضمير على الإنسان اللائق به ذلك، وهو نسل آدم، فلفظ الإنسان من حيث هو صالح للأصل والفرع، ويعود كل شيء لما يليق به وإليه نحا الزمخشري.
قوله :« فِي قَرَارٍ » يجوز أنْ يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل « نُطْفَة ».
والقرار : المستقر، وهو موضع الاستقرار، والمراد بها الرحم، وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها لأحد معنيين : إمَّا على المجاز كطريق سائر، وإنما السائر من فيه، وإِمّا لمكانتها في نفسها لأنها تمكنت بحيث هي وأحرزت. ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة، فصار الرحم قراراً مكيناً لهذه النطفة تتخلق فيه إلى أن تصير إنساناً. قوله :﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً ﴾ وما بعدها ضمن « خَلَق » معنى « جَعَل » التصييرية فتعدت لاثنين كما يضمن « جَعَل » معنى « خَلَق » فيتعدى لواحد نحو ﴿ وَجَعَلَ الظلمات والنور ﴾ [ الأنعام : ١ ]. والمعنى : حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة، وهي الدم الجامد ﴿ فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً ﴾ أي : جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة، أي : قطعة لحم، كأنها مقدار ما يمضع كالغرفة، وهو ما يغترف.
وسمى التحويل خلقاً، لأنه تعالى يفني بعض أعراضها، ويخلق أعراضاً غيرها، فسمى خلق الأعراض خلقاً لها، كأنه سبحانه يخلق فيها أجزاء زائدة.
قوله :﴿ فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً ﴾ أي : صيرناها كذلك. وقرأ العامة :« عِظاماً » و « العِظَام » بالجمع فيهما، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم :« عَظْماً » و « العَظمَ » بالإفراد فيهما، والسلمي والأعرج، والأعمش بإفراد الأول وجمع الثاني، وأبو رجاء، ومجاهد، وإبراهيم بن أبي بكر بجمع الأول وإفراد الثاني عكس ما قبله.