هكذا ينبغي أن تعلل القراءات المتقدمة. وقال ابن عطية فيمن ضم ونوّن : إنه اسم معرب مستقل مرفوع بالابتداء، وخبره « لِمَا تُوعدُونَ » أي : البُعْد لوعدكم، كما تقول : النجح لسعيك.
وقال الرازي في اللوامح : فأمَّا مَنْ رَفَعَ وَنَوَّنَ احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرفوعين، خبرهما من حروف الجر بمعنى : البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ، والتكرار للتأكيد، ويجوز أن يكونا اسماً للفعل، والضم للبناء مثل : حُوبُ في زجر الإبل لكنه نَوّنه ( لكونه ) نكرة.
قال شهاب الدين : وكان ينبغي لابن عطية وأبي الفضل أن يجعلاه اسماً أيضاً في حالة النصب مع التنوين على أنه مصدر واقع موقع الفعل وقرأ ابن أبي عبلة :﴿ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا تُوعَدُونَ ﴾ من غير لام جر. وهي واضحة، مؤيدة لمدعي زيادتها في قراءة العامة. و « ما » في « لِمَا تُوعَدُونَ » تحتمل المصدرية، أي : لوعدكم، وأن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي : توعدونه.
قوله :« إنْ هِيَ » « هي » ضمير يفسره سياق الكلام، أي : إن الحياة إلا حياتنا.
وقال الزمخشري : هذا ضمير لا يعلم ما يُراد به إلاَّ بما يتلوه من بيانه، وأصله : إن الحياة ﴿ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا ﴾، فوضع « هي » موضع « الحياة » لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه : هي النَّفْس تتحمل مَا حُمِّلَتْ، وهي العَرَبُ تقول ما شَاءَتْ. وقد جعل بعضهم هذا القسم مما يفسر بما بعده لفظاً ورتبةً، ونسبه إلى الزمخشري متعلقاً بما نقلناه عنه. قال شهاب الدين : ولا تعلق له في ذلك.
قوله :« نَمُوتُ ونَحْيَا » جملة مفسرة لما ادّعوه من أنَّ حياتهم ما هي إلا كذا. وزعم بعضهم أنَّ فيها دليلاً على عدم الترتيب في الواو، إذ المعنى : نحيا ونموت إذ هو الواقع.
ولا دليل فيها لأنّ الظاهر من معناها يموت البعض منا ويحيا آخرون وهلم جرًّا يسير إلى انقراض العصر ويخلف غيره مكانه. وقل : نموت نحن ويحيا أبناؤنا.
وقيل : القوم كانوا يعتقدون الرجعة أي : نموت ثم نحيا بعد ذلك الموت.
فصل
اعلم أنَّ القوم طعنوا في نبوّته بكونه بشراً يأكل ويشرب، ثم جعلوا طاعته خسراناً : أي : إنكم إن أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها نفع، فذلك هو الخسران، ثم طعنوا في صحة الحشر والنشر، فقالوا :﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ﴾ معادون أحياء للمجازاة، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى قرنوا به الاستبعاد العظيم، فقالوا :﴿ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾ ثم أكدوا ذلك بقولهم :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾ ولم يريدوا بقولهم :« نَمُوتُ ونَحْيَا » الشخص الواحد، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ ثم بنوا على هذا فطعنوا في نبوّته وقالوا لما أتى في دينه بهذا الباطل فقد ﴿ افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴾.