واعلم أنَّ الله - تعالى - ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أمّا الأولى : فتقدم الجواب عنها. وأمّا إنكارهم الحشر والنشر فجوابه، أنّه لمّا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على الحشر والنشر، وأيضاً : فلولا الإعادة لكان تسليط القويِّ على الضعيف في الدنيا ظلماً، وهو غير لائق بالحكيم على ما تقرر في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى ﴾ [ طه : ١٥ ].
واعلم أنَّ الرسول لمّا يئس من قبول دعوته فزع إلى ربّه وقال :﴿ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ وقد تقدّم تفسيره. فأجاب الله سؤاله وقال :﴿ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾.
قوله :« عَمَّا قَلِيلٍ » في ( ما ) هذه وجهان :
أحدهما : أنّها مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد كما زيدت الباء نحو :« فَبِمَا رَحْمَةٍ »، وفي من نحو « مِمَّا خَطَايَاهُمْ ».
و « قَلِيلٍ » صفة لزمن محذوف، أي : عن زمن قليل.
والثاني : أنّها غير زائدة، بل هي نكرة بمعنى شيء أو زمن، و « قَلِيلٍ » صفتها، أو بدل منها، وهذا الجار فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّه متعلق بقوله :« لَيُصْبِحُنَّ »، أي : ليصبحن عن زمن قليل نادمين.
الثاني : أنه متعلق ب « نَادِمِين »، وهذا على أحد الأقوال في لام القسم، وذلك أنّ فيها ثلاثة أقوال :
جواز تقديم معمول ما بعدها عليها مطلقاً، وهو قول الفراء وأبي عبيدة.
والثاني : المنع مطلقاً، وهو قول جمهور البصريين.
والثالث : التفصيل بين الظرف وعديله وبين غيرهما، فيجوز للاتساع ويمتنع في غيرهما فلا يجوز في : والله لأضربن زيداً، زيداً لأضربن لأنه غير ظرف ولا عديله.
والثالث من الأوجه المتقدمة : أنّه متعلق بمحذوف تقديره : عَمّا قَلِيلٍ تنصر حذف لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله :« رَبّ انْصُرْنِي ». وقرئ :« لَتُصْبِحُنَّ » بتاء الخطاب على الالتفات، أو على أنَّ القول صدر من الرسول لقومه بذلك.
قوله :« عَمَّا قَلِيلٍ » الآية معناه أنه يظهر لهم علامات الهلال فعند ذلك يحصل لهم الحسرة والندامة على ترك القبول. ثم بيّن تعالى الهلاك الذي أنزل عليهم بقوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق ﴾ قيل : إن جبريل - عليه السلام - صاح بهم صيحةً عظيمةً فهلكوا. وقال ابن عباس : الصيحة الرجفة. وعن الحسن : الصيحة نفس العذاب والموت. كما يقال فيمن يموت : دعي فأجاب.
وقيل : هي العذاب المصطلم، قال الشاعر :

٣٧٩٧- صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان
والأول أولى لأنه الحقيقة.
قوله :« بالحقِّ » أي : دمرناهم بالعدل، من قولك : فلانٌ يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضائه.


الصفحة التالية
Icon