قال ابنُ عباسٍ : سِتْراً، وقيل : جلست وراء جدارِ، وقال نقاتلٌ : وراء جبل.

فصل


اختلف المفسِّرون في سبب احتجابها، فقيل « إنها لمَّا رأت الحيضَ، تباعدت عن مكان عبادتها تنتظرُ الطُّهْرَ لتغتسلَ، وتعودَ، فلما طهرتْ، جاءها جبريل -عليه السلام-.
وقيل : طلبت الخلوة للعبادة.
وقيل : تبادعتْ لتغتسِل من الحيضِ، مُحْتجِبة بشيءٍ يستُرها.
وقيل : كانت في منزلِ زَوْجِ أختها زكريَّا، وفيه محراب تسكنه على حدةٍ، وكان زكريَّا إذا خرج يغلقُ عليها، فتمنَّت أن تجد خلوةً في الجبل؛ لتُفلِّي رأسها، فانفرج السَّقفُ لها، فخرجت في المشرقة وراء الجبل، فأتاها الملكُ.
وقيل : عطِشَتْ؛ فخرجت إلى المفازةِ لتستسقي، وكل هذه الوجوه محتملة.
واعلم أن المكان الشرقيَّ هو الذي يلي شرقيَّ بيت المقدس، أو شرقيَّ دارها.
قال ابنُ عبَّاسٍ -رضيالله عنهما- : إنِّي لأعلمُ خلق الله، لأيِّ شيءٍ اتَّخذت النصارى المشرق قبلةٌ؛ لقوله :﴿ مَكَاناً شَرْقِياً ﴾ فاتَّخذُوا ميلاد عيسى قبلةً، وهو قول الحسنِ -رحمه الله تعالى-.
قوله تعالى :﴿ فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا ﴾.
الجمهورُ على ضمِّ الراءِ من »
رُوحِنَا « وهو ما يَحْيون به، وقرأ أة حيوة، وسهلٌ بفتحها، أي : ما فيه راحةٌ للعبادِ، كقوله تعالى :﴿ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ ﴾ [ الواقعة : ٨٩ ] وحكى النقاس : أنه قُرِئ » رُوحنَّا « بتشديد النُّون، وقال : هو اسمُ ملكٍ من الملائكة.
قوله :»
بَشَراً سويًّا « حالٌ من فاعل » تمَثَّل « وسوَّغ وُقُوعَ الحالِ جامدة وصفها، فلمَّا وصفت النكرةُ وقعت حالاً.

فصل في المراد بالروح


اختلفوا في هذا الرُّوح، فالأكثرون على أنَّه جبريل -صلوات الله عليه- لقوله تعالى :﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين ﴾ [ الشعراء : ١٩٣ ] وسُمِّي روحاً؛ لأنَّ الدِّين يحيى به.
وقيل : سُمِّي رُوحاً على المجازِ؛ لمحبته، وتقريبه، كما تقول لحبيبك : رُوحِي.
وقيل : المرادُ من الرُّوح : عيسى -صلوات الله عليه- جاء في صورة بشرٍ، فحملت به، والأول أصحُّ، وهو أنَّ جبريل عرض لها في صُورةِ شابٍّ أمرد، حسن الوجه، جعد الشَّعْر، سويِّ الخلق وقيل : في صُورة تربٍ لها، اسمه يوسفُ، من خدم بيت المقدس.
قيل : إنما تمثَّل لها في صورة بشر؛ لكي لا تنفر منه، ولو ظهر في صورةِ الملائكة، لنفرت عنه، ولم تقدر على استماع كلامه، وهاهنا إشكالات :
الأول : أنَّه لو جاز أن يظهر الملكُ في صورة الإنسان المعيَّن، فحينئذ؛ لا يمكُننا القطع بأنَّ هذا الشخص الذي نراه في الحال هو زيدٌ الذي رأينا بالأمْس؛ لاحتمالِ أن الملك، أو الجنِّي تمثَّل بصورته، وفتحُ هذا الباب يؤدِّي إلى السَّفْسَطةِ، ولا يقال : هذا إنَّما يجوز في زمانِ [ جواز ] البعثة، فأما في زماننا فلا يجوز.
لنا أن نقول : هذا الفرقُ إنَّما يعلمُ بالدليل، فالجاهلُ بذلك الدَّليل يجبُ ألا يقطع بأنَّ هذا الشخص الذي رآه الآن هو الذي رآه بالأمْسِ.


الصفحة التالية
Icon