الثاني : أنه جاء في الأخبار أنَّ جبريل -صلوات الله عليه- شخصٌُ عظيمٌ جدًّا، فذلك الشخصُ -كيف صار بدنهُ في مقدارِ جثَّة الإنسان، وذلك يوجبُ تداخل الأجزاء، وهو محالٌ.
الثالث : أنَّا لو جوَّزنا أن يتمثَّل جبريل -صلوات الله عليه- في صورة الآدمي، فلم لا يجوز تمثُّله في صورة أصغر من الآدميِّ؛ كالذُّباب، والبقِّ، والبعُوضِ، ومعلومٌ أن كلَّ مذهب جرَّ إلى هذا، وهو باطلٌ.
الرابع : أن تجويزهُ يفضي إلى القدحِ في خبر التَّواتُر، فلعلَّ الشخص الذي حارب يوم بدرٍ، لم يكُن محمَّداً -صلوات الله عليه وسلامه- بل كان شخصاً يشبهه، وكذا القولُ في الكُلِّ.
والجوابُ عن الأوَّل : أن ذلك التجويز لازمٌ على الكُلِّ؛ لأنَّ من اعترف بافتقار العالم إلى الصَّانع المُختار، فقد قطع بكونه قادراً على أن يخلُق شخصاً آخر؛ مثل زيدٍ في خلقه وتخطيطه، وإذا جوَّزنا ذلك، فقد لزم الشكُّ في أنَّ زيداً المشاهد الآن هو الذي شاهدناه بالأمْسِ، أم لا، ومن أنكر الصَّانع المختار، وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب، وتشكُّلات الفلك، لزمه [ تجويزُ ] أن يحدث اتصالٌ غريبٌ في الأفلاك يقتضي حدوث شخصٍ، مثل زيدٍ في كُلِّ الأمور، وحينئذٍ يعود التجويزُ المذكُور.
وعن الثاني : أنَّه لا يمتنعُ أن يكون جبريلُ -عليه السلام- له أجزاءٌ أصليَّةٌ، وأجزاءٌ فاضلةٌ، فالأجزاءُ الأصليَّة قليلةٌ جدًّا؛ فحينئذ : يكون متمكِّناً من التشبُّه بصُورة الإنسان، هذا إذا جعلناه جسمانيًّا، فإذا جعلناهُ روحانيًّا، فأيُّ استبعادٍ في أن يتنوَّع بالهَيْكَل العظيم، وأخرى بالهيكل الصَّغير.
وعن الثالث : أنَّ أصل التجويز قائمٌ في العقل، وإنما عرف فسادهُ بدلائل السَّمع، وهو الجوابُ عن السؤال الرابع.
قوله :﴿ قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً ﴾.
أي : إن كان يرجى منك أن تتقي الله، فإنِّي عائذةٌ به منك؛ لأنَّها علمتْ أن الاستعاذة لا تؤثِّرُ في التُّقى، فهو كقول القائل : إن كنت مُسْلماً، فلا تظلمني، أي : ينبغي أن تكُون تقواك مانعاً لك من الفُجُور.
كقوله تعالى :﴿ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ البقرة : ٢٧٨ ].
أي : أنَّ شرط الإيمان يُوجب هذا؛ لا أنَّ الله تعالى يُخْشَى في حالٍ دون حالٍ.
وقيل : كان في ذلك الزَّمانِ إنسانٌ فاجرٌ يتبعُ النِّساء، اسمه تقيٌّ، فظنَّت مريمُ انَّ ذلك الشخص المشاهد هُو ذاك، والأول أصحُّ. قوله :﴿ إِن كُنتَ تَقِيّاً ﴾ جوابه محذوفٌ، أو متقدِّم.
قوله تعالى :﴿ لاًّهَبَ ﴾ : قرأ نافعٌ، وأبو عمرو « ليَهَبَ » بالياء والباقون « لأهَبَ » بالهمزة، فالأولى : الظاهرُ فيها أنَّ الضمير للرَّبِّ، أي : ليهبَ الرَّبُّ، وقيل : الأصلُ : لأهَبَ، بالهمز، وإنما قلبتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ، فتتفِقُ القراءتان، وفيه بعدٌ، وأمَّا الثانية، فالضميرُ للمتكلِّم، والمراد به الملكُ، وأسنده لنفسه؛ لأنه سببٌ فيه ويؤيده : أن في بعض المصاحف :« أمرني أن أهب لك » ؛ ويجوز أن يكون الضمير لله تعالى، ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف.