قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً ﴾.
فصل
لما علم جبريلُ -صلوات الله عليه- خوفها، قال :﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ ﴾ ليزول عنها ذلك الخوف، ولكن الخوف لا يزولُ بمجرَّدِ هذا القول، بل لا بدَّ من دلالةٍ تدلُّ على أنه كان جبريل -صلوات الله عليه-، فيحتمل أن يكون قد ظهر معجزٌ، عرفت به أنَِّه جبريلُ -صلوات الله عليه-، ويحتمل أنَّها عرفت صفة الملائكة من جهة زكريَّا -صلوات الله عليه- فلمَّا قال لها :﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ ﴾ أظهر لها من جسده ما عرفت به أنَّه ملكٌ؛ فيكونُ ذلك هو العلمَ، والذي يظهر أنَّها كانت تعرفُ صفة الملك بالأمارات، حين كان يأتيها بالرِّزْق في المحراب، وقال لها زكريَّا :﴿ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله ﴾ [ آل عمران : ٣٧ ].
قوله :﴿ غُلاَماً زَكِيّاً ﴾ ولداً صالحاً طاهراً من الذُّنوب.
﴿ قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ﴾ إنما تعجبت مما بشَّرها جبريلُ؛ لأنَّها قد عرفت بالعادة أنَّ الولادة لا تكونُ إلاَّ من رجُلٍ، والعاداتُ عند أهل المعرفةِ معتبرةٌ في الأمُور، وإن جوَّزنا خلاف ذلك في القدرة، فليس في قولها هذا دلالةٌ على أنَّها لم تعلمْ أنَّه تعالى قادرٌ على خلق الولد ابتداءً، وكيف، وقد عرفت أنَّه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدِّ؛ ولأنَّها كانت منفردةً بالعبادة، ومن يكونُ كذلك، لا بُدَّ أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك.
فإن قيل : قولها ﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ كافٍ في المعنى، فلم قالت :﴿ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ﴾ فالجوابُ من وجهين :
أحدهما : أنها جعلت المسَّ عبارة عن النِّكاح الحلال؛ لأنَّه كنايةٌ عنه قال تعالى :﴿ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ] والزِّنَا، إنما يقال فيه : فجر بها، أو ما أشبهه.
والثاني : أن إعادتها؛ لتعظيم حالها؛ كقوله تعالى :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ] وقوله تعالى :﴿ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ]. فكذا هاهنا : إن من لم تعرف من النِّساء بزوجٍ، فأغلظ أحوالها، إذا أتت بولدٍ : أن تكُون زانيةً، فأفردت ذلك البغْي بعد دخوله في الكرم؛ لأنَّه أعظُم ما في بابه.
قوله تعالى :« بَغْيًّا » : في وزنه قولان :
أحدهما -وهو قولُ المبرِّد- أنَّ وزنه « فُعُولٌ » والأصل « بَغُويٌ » فاجتمعت الياء، والواو، [ ففعل فيه ما هو معروفٌ ]، قال أبو البقاء :« ولذلك لم تلحق تاءُ التأنيث؛ كما لم تلحقْ في صبُور وشكور » ونقل الزمخشريُّ عن أبي الفتح في كتابه « التمام » أنها فعيلٌ، قال :« ولو كانت فُعولاً، لقيل : بغُوٌّ، كما يقال : فلان نهُوٌّ عن المنكر » ولم يعقبه بنكير، ومن قال : إنها « فَعِيْلٌ » فهل هي بمعنى « فَاعِل » أو بمعنى « مَفْعُول » ؟ فإن كانت بمعنى « فاعل » فينبغي أن تكون بتاء التأنيث؛ نحو : امرأةٌ قديرةٌ وبصيرةٌ، وقد أجيب عن ذلك : بأنها معنى النَّسب؛ كحائضٍ وطالقٍ، أي ذات بغي، وقال أبو البقاء، حين جعلها بمعنى « فَاعِل » :« ولم تلحقِ التاءُ أيضاً؛ لأنها للمبالغةِ » فجعل العلة في عدم اللحاقِ كون للمبالغة؛ وليس بشيءٍ، وإن قيل بأنَّها بمعنى « مَفْعُول » فعدمُ الياءِ واضحٌ.