وقيل : خافت على ولدها من القَتْل، لو ولدته بين أظهرهم. وكلُّ هذه الوجُوهِ محتملةٌ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيءٍ منها.
فصل في بيان حمل مريم
اختلفُول في مدَّة حملها، فرُوي عن ابن عبَّاس -Bهما- أنَّها تسعة أشهر؛ كسائر النسِّاء في الغالب.
وقيل : ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أخرى؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ يولدُ لثمانية أشهر إلاَّ عيسى « صلوات الله عليه-.
وقال عطاءٌ، وأبو العالية، والضحاك : سبعةُ أشهر وقيل : ستَّةُ أشهر.
وقال مقاتلُ بنُ سليمان : ثلاثُ ساعاتٍ، حملت به في ساعةٍ، وصُوِّر في ساعةٍ، ووضعته حين زالتِ الشَّمْسِ من يومها.
وقال ابنُ عبَّاس : كان الحَمْل والولادةُ في ساعةٍ واحدة، ويدلُّ عليه وجهان :
الأول : قوله :﴿ فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ ﴾ ﴿ فَأَجَآءَهَا المخاض ﴾ ﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ ﴾، والفاء : للتعقيب؛ فدلَّت هذه الفاءاتُ على أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأحوال حصل عقيبَ الآخَرِ من غير فصْلٍ؛ وذلك يوجبُ كون مدَّة الحَمْل ساعةً واحدة لا يقال : انتباذها مكاناً قصيًّا كيف يحصُل في ساعةٍ واحدةٍ؛ لأنَّا نقول : السُّدي فسَّر بأنَّها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها.
الثاني : أنَّ الله تعالى قال في وصفه ﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ]، فثبت أن عيسى -صلواتُ الله عليه- كما قال الله تعالى :» كُنْ « فكان، وهذا مما لا يتصوَّر فيه مدَّةُ الحمل، إنَّما يتصوَّر مُدَّة الحمل في المتولِّد عن النُّطفة.
والقَصيُّ : البعيدُ.
يقال : مكانٌ قاصٍ، وقَصِيٌّ بمعنى واحدٍ؛ مثل : عاصٍ وعَصِيٍّ.
قوله تعالى :﴿ فَأَجَآءَهَا ﴾ : الأصلُ في » جَاءَ « : أنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه، فإذا دلت عليه الهمزة، كان القياسُ يقتضي تعدِّه لاثنين، قال الزمخشريُّ :» إلاَّ أنَّ استعماله قد تغيَّر بعد النَّقْل إلى معنى الإلجاء، ألا تراك لا تقول : جئتُ المكانَ، وأجاءنيه زيدٌ؛ كما تقولُ : بلغتهُ وأبلغنيه، ونظيرهُ « آتى » حيثُ لم يستعمل إلا في الإعطاء، ولم تقل : أتيتُ المكان وآتانيه فلانٌ «.
وقال أبو البقاء : الأصلُ » جَاءَهَا « ثم عُدِّي بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ، واستعمل بمعنى » ألْجَأها «.
قال أبو حيَّان : قوله : إنَّ » أجَاءَهَا « [ استعمل ] بمعنى » ألْجَأهَا « يحتاجُ إلى نقل أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك من لسانِ العرب، والإجاءةُ تدلُّ على المُطلقِ، فتصلحُ لما هو بمعنى » الإلْجَاءِ « ولما هو بمعنى » الاختيار « كما تقول :» أقَمْتُ زَيْداً « فإنه يصلحُ أن تكون إقامتك لهُ قَسْراً أو اختياراً، وأمَّا قوله :» ألا تراكَ لا تقُولُ « إلى آخره، فمن رأى أنَّ التعدية بالهمزة قاسٌ، أجاز ذلك، وإن لم يسمعْ، ومن منع، فقد سمع ذلك في » جَاءَ « فيجيزُ ذلك، وأمَّا تنظيهُ ذلك ب » أتى « فليس تنظيراً صحيحاً؛ لأنَّه بناهُ على أنَّ همزته للتعدية، وأنَّ أصله » آتى « بل » آتى « ممَّا بُنِي على » أفْعَل « ولو كان منقولاً من » أتى « المتعدِّي لواحد، لكان ذلك الواحدُ هو المفعول الثاني، والفاعل هو الأوَّل، إذا عدَّيته بالهمزة، تقولُ :» أتى المالُ زيداً « و » آتى عمروٌ زيداً المالَ « فيختلفُ التركيبُ بالتعدية؛ لأنَّ » زَيْداً « عند النحويِّين هو المفعول الأول، و » المال « هو المفعولُ الثاني، وعلى ما ذكره الزمخشريُّ، كان يكون العكس، فدلَّ على أنَّه ليس ما قاله، وأيضاً، ف » أتى « مرادفٌ ل » أعْطَى «، فهو مخالفٌ من حيثُ الدلالة في المعنى، وقوله :» ولمْ تَقُل : أتَيْتُ المكانَ، وآتانيه « هذا غيرُ مسلمٍ، بل تقول :: أتَيْتُ المَكَانَ » كما تقول :« جِئْتُ المكانَ » وقال الشاعر :[ الوافر ]