و « منْسِيًّا » نعتٌ على المبالغة، وأصله « مَنْسُويٌ » فأدغم، وقرأ أبو جعفرٍ، والأعمشُ « مِنْسيًّا » بكسر الميم؛ للاتباع لكسرة السين، ولم يعتدُّوا بالساكن؛ لأنه حاجزٌ غير حصينٍ؛ كقولهم :« مِنْتِنٌ » و « مِنْخِرٌ »، والمقبرة والمحبرة.
قوله تعالى :﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ ﴾ : قرأ الأخوان، ونافع، وحفص بكسر ميم « مِنْ » وجرِّ « تحتها » على الجار والمجرور، والباقون بفتحها، ونصب « تحتها » فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكون الفاعلُ في « نَادَى » مَكراً، وفيه تأويلان :
أحدهما : هو جبريلُ، ومعنى كونه « مِنْ تحتها، أنه في مكانٍ أسفل منها؛ ويدلُّ على ذلك قراءةُ ابن عبَّاس » فناداها ملكٌ من تحتها « فصرَّح به.
ومعنى كونه أسفل منها : إما أن يكونا معاً في مكانٍ مستوٍ، وهناك مبدأ معيَّنٌ، وهو عند النَّخْلة، وجبريلُ بعيدٌ عنها، فكل من كان أقرب، كان فوق، وكُلُّ من كان أبعد، كان تحت، وبهذا فَسَّر الكلبيُّ قوله تعالى :﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ [ الأحزاب : ١٠ ].
ولهذا قال بعضهم : ناداها من أقصى الوادي.
وقيل : كانت مريم على أكمةٍ عاليةٍ، وجبريل أسفل؛ قاله عكرمة.
ورُوِيَ عن عكرمة : أنَّ جبريل ناداها من تحتِ النخْلَة.
و »
مِنْ تَحْتهَا « على هذا فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّقق بالنداء، أي : جاء النداء من هذه الجهة.
والثاني : أنه حالٌ من الفاعل، أي : فناداها، وهو تحتها.
وثاني التأويلين : أنَّ الضمير لعيسى، أيك فناداها المولودُ من تحتِ ذيلها، والجارُّ فيه الوجهان : من كونه متعلَّقاً بالنداء، أو بمحذوفٍ على انه حالٌ، والثاني أوضحُ.
والقراءة الثانية : تكونُ فيها »
مَنْ « موصولةً، والظرفُ صلتها، والمرادُ بالموصول : إمَّا جبريلُ، وإمَّا عيسى.
وقرأ زئرٌّ، وعلقمةُ :»
فَخَاطَبَهَا « مكان » فَنَادَاها «.

فصل في اختلافهم في المنادي


قال الحسنُ وسعيدُ بن جبيرٍ : إنَّ المنادي هو عيسى -صلوات الله عليه- وقال ابنُ عبَّاسٍ والسديُّ، وقتادةُ، والضحاكُ، وجماعةٌ : إنَّه جبريل -صلوات الله عليه- وكانت مريمُ على أكمة [ وجبريل ] وراء الأكمةِ تحتها.
وقال ابن عيينة، وعاصمٌ : المنادي على القراءة بالفتح وهو عيسى، وعلى القراءة بالكسر هو الملكُ، والأوَّل أقربُ لوجوهٍ :
الأول : أن قوله :﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ ﴾ بفتح الميم إنَِّما يستعملُ إذا كان قد عُلِم قبل ذلك أنَّ تحتها أحداً، والذي عُلِمَ كونه تحتها هو عيسى -صلوات الله عليه- فوجب حملُ اللفظ عليه، وأما قراءة كسر الميم، فلا تقتضي كون المنادي »
جبريل « صلواتُ الله عليه.
الثاني : أنَّ ذلك الموضع موضعُ اللَّوْث والنَّظر إلى العورة، وذلك لا يليقُ بالملائكةِ.
الثالث : ان قوله »
فَنَدَاهَا « فعلٌ، ولا بُدَّ أن يكون فاعله قد تقدَّم ذكره، والذي تقدَّم ذكره هو جبرائيل، وعيسى -صلوات الله عليهما-، إلا أنَّ ذكر عيسى أقربُ؛ لقوله عزَّ وجلَّ :﴿ فَحَمَلَتْهُ فانتبذت ﴾ والضمير عائدٌ إلى المسيح، فكان حمله عيله أولى.


الصفحة التالية
Icon