ورابعها : أن المسيح : إمَّا أن يكون قديماً، أو محدثاً، والقولُ بقدمه باطلٌ؛ لأنَّا نعلمُ بالضَّرورةِ أنَّه وُلدَ، وكان طفلاً، ثم صار شابًّا، وكان يأكُل ويَشْرب، ويعرضُ له ما يعْرِضُ لسائر البشر، وإنْ كان مُحْدِثاً، كان مخلوقاً، ولا معنى للعبوديَّة إلاَّ ذلك.
فإن قيل : المعنيُّ بالالهيَّة أنَّه حلَّت فيه صفةُ [ الإلهيَّة، قلنا :] هب أنَّه كان كذلك، لكنَّ الحالَّ هو صفة الإلهِ، والمسيح هو المحل، والمحلُّ محدثٌ مخلوقٌ، فالمسيحُ عبدٌ محدثٌ، فكيف يمكنُ وصفه بالإلهيَّة؟.
وخامسها : أنَّ الولد لا بُدَّ وأن يكون من جنس الوالد، فإن كان لله تعالى ولدٌ، فلا بُدَّ أن يكُون من جنسه، فإذاً قد اشتركا في بعض الوجوه، فإن يتميَّز أحدهما عن الآخر بأمر مَّا، فكلُّ واحدٍ منهما هو الآخر، وإن حصل الامتيازُ، فما به الامتيازُ غيرُ ما به الاشتراكُ؛ فيلزمُ وقوعُ التَّركيب في ذاتِ الله تعالى، وكلُّ مركَّب مُمْكِنٌ، [ فالواجب ] ممكنٌ؛ هذا خلفٌ، هذا على الاتِّحاد، والحلول.
فإن قيل : قالوا : معنى كونه إلهاً أنَّه سبحانهُ خصَّ نفسه أو بدنهُ بالقُدرة على خلق الأجسام، والتصرُّف في هذا العالمِ، فهذا أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ النصارى نقلُوا عنه الضَّعف والعَجْز، وأنَّ اليهود قتلُوه، فلو كان قادراً على خَلْق الأجسام، لما قَدَرُوا على قَتْله، بل كان هو يقْتُلُهم ويَخْلَقُ لنفسه عَسْكَراً يذُبُّون عنه.
فإن قيل : قالُوا : معنى كونه إلهاً أنَّه اتَّخذه ابناً لنفسه؛ على سبيل التشريف، وهو قد قال به قومٌ من النصارى، يقال لهم الآريوسية، وليس فيه كثير خطأ إلاَّ في اللفظ.
قوله تعالى :﴿ آتَانِيَ الكتاب ﴾ قيل : معناه : سيُؤتيني الكتاب، ويجعلني نبيًّا.
روى عكرمةُ عن ابن عبَّاس -Bهما- « أنَّ هذا إخبارٌ عمَّا كتبَ له في اللَِّوْح المحفُوظ؛ كما قيل للنبيِّ ﷺ : متى كُنْتَ نبيًّا؟ قال :» كُنْتُ نبيًّا، وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجسدِ « وعن الحسن -Bه- أنَّه ألهمَ التوراة، وهو في بطن أمِّه.
وقال الأكثرون : إنه أوتيَ الإنجيل، وهو صغيرٌ طفلٌ، وكان يعقلُ عقل الرِّجال.
فمن قال : الكتابُ : هو التَّوراة، قال : لأنَّ الألف واللاَّم للعهد، ولا معهود حينئذٍ إلاَّ التوراة، ومن قال : الإنجيلُ، قال »
الألفُ واللاَّم للاستغراق، وظاهرُ كلام عيسى -صلوات الله عليه- أنَّ الله تعالى آتاه الكتاب، وجعله نبيًّا، وأمره بالصَّلاة والزَّكاة، وأن يدعو إلى الله تعالى، وإلى دينه، وشريعته من قبل أن يكلِّمهم، وأنه تكلَّم مع أمَّه وأخبرها بحاله، وأخبرها بأنَّه يكلِّمهم بما يدلُّ على براءتها، فلهذا أشارتْ إليه بالكلامِ.
قال بعضهم : أخبر أنَّه نبيٌّ، ولكَّنه ما كان رسولاً؛ لأنَّه في ذلك الوقت ما جاء بالشَّريعة، ومعنى كونه نبيَّا : رفيعُ القدر عالي الدرجة؛ وهذا ضعيف لأنَّ النَّبيَّ في عرف الشَّرع هو الذي خصَّه الله بالنبوَّة وبالرِّسالة، خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشَّرع، وهو قوله :﴿ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة ﴾ ثم قال :﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ﴾.


الصفحة التالية
Icon